ارشيف القدس العربي

الشوكة الصحراوية

هل نستبشر خيرا بانتهاء الخلاف المزمن بين الجزائر والمغرب؟ وهل نتوقع صدور قرار بفتح الحدود البرية بين البلدين قريبا؟ تصريحات رئيس الدبلوماسية الجزائرية التي تناقلتها الصحف المحلية بداية هذا الأسبوع تحمل رسالة أمل في أن تنفتح صفحة مودة جديدة بين الجارين. يقول وزير الخارجية مراد مدلسي إن بلاده تقيم (علاقات عادية مع المغرب ولا توجد مشكلة). وعندما سُئل عن مسألة فتح الحدود البرية مع المغرب وتطبيع العلاقات، رد معاليه قائلاً إن (الحدود قضية لا تمنع وجود علاقات عادية مع كل الأقطار. وبالتالي فإن فتحها يحتاج إلى تأمين من الطرفين. أما بالنسبة إلى قضية الصحراء فلا علاقة لها بمسألة الحدود)، ثم يضيف في صيغة الواثق والمسؤول عن كلامه أنه (لا توجد علاقات سيئة بين المغرب والجزائر، وإنما علاقة حوار ومحاولة للتفاهم في قضايا تشغل الطرفين)، وللتأكيد على علاقة الحوار والتفاهم هذه يكشف لنا الوزير أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والعاهل المغربي الملك محمد السادس في تواصل دائم وتشاور وقد التقوا في مناسبات عديدة (خارج الجزائر والمغرب).

معالي الوزير اعترف ذات يوم أمام الملأ أنه كان ناقص ذكاء، كان ذلك عن أيامه التي قضاها وزيرا للمالية ومناسبة اعترافه كانت محاكمة الملياردير الفار رفيق عبد المؤمن خليفة. لكن تبين لفخامة الرئيس بوتفليقة أن وزيره سيكون على درجة عالية من الذكاء واليقظة في منصب وزير الخارجية، وها هو في تصريحاته الجديدة حول العلاقة بين الجزائر والمغرب يبلي بلاء حسنا. العلاقة إذن بين البلدين الجارين هي علاقة عادية من غير سوء من جهة وعلاقة حوار وتفاهم من جهة ثانية. في القاموس الدبلوماسي الجزائري العلاقة العادية التي يسودها الحوار والتفاهم هي التي تكون مظاهرها كالتالي: حدود برية مغلقة منذ 15 سنة، وتبادل الاتهامات بين قيادات البلدين (وصلت حد اتهام الملك محمد السادس الجزائر بالسعي إلى بلقنة المنطقة)، وجفاء بين شرائح واسعة من شعبي البلدين، والأهم من ذلك هو أن علاقات الحوار والتفاهم تتجلى في لقاءات بين رئيس الجمهورية وعاهل المملكة خارج ترابي المملكة والجمهورية، أي في ملعب محايد. لعلنا سنشهد نسخة مطوّرة من حرب داحس والغبراء لو كانت العلاقات سيئة أو لو كان معالي الوزير يقدّر أن العلاقة متوترة.

مدلسي قال إن قضية الصحراء الغربية والخلاف الجزائري المغربي المزمن حولها لا علاقة لهما بمسألة إبقاء الحدود البرية مغلقة طيلة 15 سنة. وهو نفس الوزير الذي قال قبل أيام فقط من تصريحه الأخير إن العلاقات الجزائرية المغربية طيبة ولا شيء يعكر صفوها سوى قضية الصحراء الغربية، مضيفا أن (اتحاد المغرب العربي أكبر من أن يُختصر في فتح الحدود والتجارة). ماذا يوجد أكبر من فتح الحدود بين شعبي البلدين والتبادل التجاري؟ ربما تبادل الشعارات الرنانة والفارغة والتنسيق الأمني.

مدلسي الذي قال قبل أيام قليلة إن قضية الصحراء لا علاقة لها بفتح الحدود الجزائرية المغربية هو نفسه الذي أكد قبل سبعة أشهر في حوار لصحيفة (العرب) القطرية أن (الحدود البرية بين الجزائر والمغرب لن يتم فتحها في ظل عدم التوصل إلى حلول بالنسبة للقضايا العالقة بين البلدين وعلى رأسها قضية الصحراء الغربية)، وقد رد على سؤال حول الحدود المغلقة وإن كانت هناك تسوية لهذا الأمر في الأفق بما يلي: “نعم ما زالت (الحدود) مغلقة وهذا أمر يعني السلطة الجزائرية ولما تكون الظروف هي غير الظروف السائدة اليوم سيتم فتح الحدود، ونحن ننتظر الظروف الملائمة المتعلقة بقضايا كثيرة وعلى رأسها موقف المغرب من قضية الصحراء”.

كلام لا يختلف كثيرا عن كلام قاله زميله الوزير المنتدب للشؤون المغاربية والإفريقية عبد القادر مساهل نهاية العام الماضي وجاء فيه أنه (لا يمكن تصوّر بناء اتحاد مغاربي قوي من دون التوصّل إلى تسوية عادلة لقضية الصحراء الغربية).

من نصدق وماذا نصدق في كل هذا الكلام؟ هل نصدق الوزير مدلسي أم مدلسي الوزير، وهل نأخذ بالتصريح القائل إن إبقاء الحدود البرية بين الجزائر والمغرب مغلقة لا علاقة له بالخلاف القائم بين البلدين حول الصحراء الغربية أم نعتمد ما قيل من أن قضية الصحراء هي بيت الداء ولا يتصور تطبيع لهذه العلاقات المتوترة التي وصلت حد غلق الحدود من دون التوصل إلى حل نهائي لقضية الصحراء الغربية؟ والحل النهائي هو من دون شك قيام دولة صحراوية مستقلة وقبول المغرب بذلك صاغرا.

كان المسؤولون الجزائريون يبررون إبقاءهم على الحدود البرية بين البلدين مغلقة بكونها معبرا للإرهاب والسلاح والمخدرات ومرتعا للمهربين وهي كلها مصائب تشكو منها الجزائر خاصة، ولم يكن هناك وقتها ذكر للسبب السياسي الذي تحول في ما بعد إلى سبب رئيسي وهو قضية الصحراء الغربية.

والذي يؤكد أن إصرار الجزائر على (خنق) المغاربة من خلال إبقاء الحدود مغلقة سببه الخلاف السياسي هو الأخبار المتدفقة عن تهريب السلاح والمخدرات والسلع وتنقل الإرهابيين و(دعاوي الشر) الأخرى على الحدود الجزائرية مع بلدان أخرى غير المغرب، ولم تفكر السلطات الجزائرية يوما واحدا أن تعلن قرارا بغلق تلك الحدود درءا للفتنة. هل الإرهابيون الذين يسرحون ويمرحون على الحدود الجزائرية الجنوبية مثلا هم أقل خطرا وأخف وطئا على استقرار الجزائر من أولئك الذين ينشطون على حدودنا الغربية؟ وهل السموم والأمراض القاتلة التي تزحف عبر حدودنا هناك ألطف وأرحم من تلك التي تأتي من جيران الغرب؟ لو كان الجزائريون هم أصحاب المثل القائل (الباب اللي يجيك منه الريح سده واسترح) لقلنا إنهم أوفياء لمبادئهم وأمثالهم، لأنهم اختاروا الحل الأسهل لهم. ثم ما دام هذا الحل يبدو لائقا وفعالا لماذا لا نطبقه على باقي الحدود البرية وندعو الدول الأخرى التي تشكو التهريب وتسرب الإرهابيين إليها أن تفعل مثلنا؟

وإذا اقتنعنا، رغم التصريح الوزاري الأخير، أن قضية الصحراء هي التي تسمم العلاقات الجزائرية المغربية إلى درجة أن الجزائر قطعت شريانا حياتيا واجتماعيا هاما بينها وبين واحدة من أهم جاراتها، فلماذا تصر الجزائر، عندما تُدعى إلى التحاور المباشر حول هذا الملف الخلافي المزمن، على أنها غير معنية بالموضوع وأن على المغرب أن يتفاوض مع أصحاب الشأن الممثلين في جبهة البوليساريو؟ إذا كانت القضية جزائرية مغربية فلا بد أن تنغمس الجزائر مع المغرب لحلها، وإذا كانت قضية بين البوليساريو والمغرب فلماذا تغلق الحدود المغربية الجزائرية بسببها؟ أم أن هذه هي النظرة الصائبة للتضامن الجزائري مع أصحاب القضية؟

دولة الإمارات العربية المتحدة تشكو من سنين اغتصاب إيران لثلاث من جزرها وهو ما يظهر أنه احتلال بيّن، لكن هل سمعنا يوما أن الإمارات عادت إيران أو أنها قررت غلق مجاليها البحري أو الجوي أمامها؟ الإمارات معنية مباشرة بهذه القضية، ومع ذلك فإننا نجد أكبر جالية أجنبية تعيش على تراب الإمارات هي الجالية الإيرانية وأهم تبادل تجاري في الإمارات هو القادم من إيران. دول خليجية أخرى وصل الخلاف المباشر بينها أقصى حدود التوتر ومع ذلك فإنها لم تفكر يوما أن تغلق حدودها البرية أو تفرض على رعاياها التأشيرة. نفس الشيء يمكن قوله عن الخلاف السوري اللبناني في السنوات الأخيرة، ومع ذلك فإن عبقرية هذين البلدين لم تستلهم من العبقرية المغاربية.

كل هذا وبلدان كيان المغرب العربي الأخرى فضلت أن تبقى متفرجة على صراع سياسي ينخر إخوة لهم، وكأن العداوة هي بين غرباء أو حول قضية أمة مصيرية كقضية فلسطين. لماذا لا نرى تحركا مغاربيا جادا لحل هذا الخلاف المزمن بين بلدين عربيين مسلمين جارين أو لتعلن دول هذا الكيان الذي لم يبرح غرفة الإنعاش أنها في حل من هذا التحالف أو الاتحاد الذي أرهق ظهورنا وهتك شرف شعوب المنطقة.


المقال نشر يوم: 23-07-2009

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى