ارشيف القدس العربي

طوق نجاة جديد لحكام الجزائر

عاشت الجزائر أياما من فرحة مسكرة وموجة نشوة عارمة بعد أن حقق منتخب الجزائر لكرة القدم نصرين تاريخيين بمناسبة تصفيات التأهل إلى نهائيات كأسي إفريقيا والعالم. الفوز الأول كان على المنتخب المصري في الجزائر بنتيجة عريضة والثاني على فريق زامبيا في ملعب الموت الزامبي، كما يسمى. كان ذلك كافيا لكي تهتز الجزائر من أقصاها إلى أقصاها فرحا وابتهاجا ويصل الصدى إلى دول أخرى حيث تعيش الجالية الجزائرية. شوارع المدن والقرى الجزائرية عاشت أياما وليالي ترقص وتزغرد وتغني و(تضرب) البارود.

كانت تلك فرحة طبيعية ولحظة نشوة طالما انتظرها الجزائريون الذين تكالبت عليهم النوائب والكوارث من كل صوب، حتى أن كثيرا منهم نسي لسنوات عديدة كيف يبتسم وكيف هو شكل الوجه الفرح. الإرهاب من جهة والفساد والظلم والتسلط من جهة ثانية وما نتج عن ذلك من يأس ونقمة وإحباط. وقد رافق وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم سنة 1999 خيط أمل في تغير الأوضاع وتحول حال الجزائريين نحو الأحسن، فصدّق كثير من الجزائريين أن بوتفليقة يختلف عن باقي رجال الحكم الذين سبقوه وأنه قادم ليعيد الأمور إلى نصابها ويحقق لشعب البلد ما كان يحلم به من استقرار وعيش كريم وعدالة اجتماعية، لكن سرعان ما تبيّن أن الخيط كان قصيرا وأن جذوة الأمل خبت، قبل أن يراها كل الجزائريين، رغم محاولات المتزلفين النفخ فيها لتبقى متقدة. وبما أن فاقد الشيء لا يعطيه، فقد فشلت جميع محاولات النظام إيهام الناس أن الخير صار عميما عليهم وأن الأمور تغيرت ولم تعد كما كانت من قبل وأن الأزمة المتعددة الأوجه قد ودّعت إلى غير رجعة.

عجز الرئيس بوتفليقة وكل أركان النظام الأخرى أن يعيدوا للجزائريين ابتسامتهم الصادقة ويزرعوا في نفوسهم بذرة أمل يخرجون بها من أجداث الحرمان (بكل أشكاله) والقهر واليأس التي سكنوها عقودا طويلة. ولم تفلح المليارات التي صُرفت ولا الخطب الرنانة ولا الوعود المعسولة إلا في رسم صورة مصطنعة للجزائر، وكانت المساحيق والترقيعات تزول مع أول دمعة تنزل من مقلة أم فقدت ابنها المغدور برصاص جماعات الموت أو في أعماق البحر المتوسط وهو يحاول الهرب من جحيم بلده إلى جنة الأوهام على الضفة الأخرى من البحر المتوسط أو منتحرا أو مدمنا.

يتمنى المرء أن يصدّق أن الجزائر صارت فعلاً كما يصوّرها فخامته ورجاله، بلداً استعاد عافيته تماما وعاد قويا وكلمته في المحافل الدولية مسموعة ومدوية، وشعبه يرفل بالراحة والأمان ولم يعد يذكر من سنوات الدم والقهر شيئا. برامج ومخططات الحكومة تزخر بالمنجزات المشهودة (والخير للقدام)، ملايين السكنات ومناصب الشغل والمدارس والجامعات والعطايا الأخرى. إنجازات يُفترض أن يفتخر بها كل جزائري أو يسكت إن كان في قلبه حقد ذاتي على النظام وأهله، لولا أن واقع الحال غير ما يُفترض أن يكون. هل توقف هدير محركات قوارب الموت الحاملة لشباب وشابات وحتى شيوخ الجزائر إلى أوروبا؟ هل خمدت نار الفتنة وصمتت الأسلحة والقنابل وصار الجزائريون وقوات الأمن المختلفة آمنة من غدر جزائريين آخرين يعيشون كالخفافيش هنا وهناك؟ هل خلت أعمدة الصحف المحلية من أخبار الجزائريين الذين يقررون في لحظة يأس وطيش إنهاء حياتهم بطرق غريبة وعجيبة؟ هل أصبح الجزائريون يثقون فعلا في أن قضاء بلدهم قوي ونزيه وأن سيف محاربة الفساد والظلم يطيح بكل فاسد وظالم حيثما كان ومهما كان وضعه؟ أسئلة لا يمكن أن يجيب عنها إلا الجزائريون أنفسهم، وقد لا تحتاج إلى جواب إذا نظر المرء حواليه. بين واقع الحال والحال الذي يحاول النظام وأدواته تقديمه، هناك نتيجتان اثنتان لا ثالثة لهما، فإما أن الشعب الجزائري اليائس والناقم غير واع وغير مقدِّر لما تبذله حكومته من أجله وإما أن الحكومة قد (قصدرت) وجهها ولم يعد يهمها أن تسمي الثعبان خروفا، بل وترفض من الآخرين أن يروه ثعبانا أو يهربوا منه أو حتى أن يحاولوا التخلص منه.

وها هو الفوز المزدوج للفريق الجزائري لكرة القدم جاء ليثبت أن النظام نفسه لم يكن مصدّقا تهيؤاته وتخاريفه وأن الجزائريين لا يزالون بحاجة إلى بسمة وفرحة تنسيهم معاناتهم وهمومهم التي تلازمهم منذ سنين طويلة. كان طبيعيا أن يراسل الرئيس الجزائري الفريق قبل المباراة الأولى والثانية ليطلب منه الاجتهاد لتحقيق نتيجة إيجابية وأن يراسله بعد الفوز مهنئا وشاكرا له فوزه الذي أسعده وأسعد كافة الشعب الجزائري، فهذا ما يفعله كثير من الرؤساء ولا ضير في ذلك طبعا. لكن أن يتعدى الأمر رسائل الرئيس أو وزير الشباب والرياضة إلى زعماء أحزاب التحالف وإلى مختلف الوزراء (بمن فيهم وزير الشؤون الدينية الذي أخبرنا مدرب الفريق أن معاليه اتصل به وهنأه كثيرا على الفوز) فهذا من شأنه أن يغيّر الحكاية من مجرد فوز رياضي لفريق وطني إلى قضية سياسية ذات مآرب انتهازية.

السياسيون أرادوا ركوب الموجة واستغلال فرحة رياضية لتحويلها إلى نصر سياسي مبين يطيل عمرهم ويمنحهم قبولا أمام الجزائريين. وقد شاهد الجميع كيف تطورت الأمور وتحوّل تلفزيون الحكومة إلى منبر يصدح في كل نشراته الإخبارية بالفوز الكاسح للمنتخب الجزائري وبالفرحة العارمة التي عمّت مدن الجزائر وقراها، تغطية تجاوزت إطارها الرياضي بكثير، حتى أن المدرب الوطني رابح سعدان تحوّل إلى بطل قومي وإلى نجم الشاشة والمحطات الإذاعية الرسمية (كلها رسمية)، وضع لا شك أن كثيرا من الوزراء، بل حتى فخامته نفسه، يحسدونه عليه. كيف لا وهو الوحيد الذي استطاع أن يرسم على وجوه كثير من الجزائريين فرحة حقيقية لا يشوبها نفاق ولا انتهازية ولا تصنّع ولا غدر ولا مكر ولا خبث.

لي صديق عزيز من أفقه الناس في مسائل الرياضة ومن المتابعين الدؤوبين للشأن الرياضي، إلا أن سلوكه سرعان ما يتغير عندما يتعلق الأمر بمقابلة يستعد الفريق الوطني أو أي ناد جزائري لخوضها ضد منتخب أو ناد أجنبي، في كل مرة أجد هذا الصديق (ولنسمه عبد القادر) يدعو الله من قلبه أن لا يفوز ممثل الجزائر مهما كانت المنافسة. نعم، عبد القادر هذا جزائري ورياضي من الدرجة الأولى، لكنه عكس السواد الأعظم من الجزائريين يفرح كثيرا عندما ينهزم الفريق الجزائري ويغضب عندما يفوز، وكم تمنّيت أن أرى وجهه وأشبال سعدان يسجلون الفوز تلو الفوز. لكن علينا أن نعترف أن دعواته كانت مستجابة لسنوات طويلة، ربما كان معه آخرون يشاطرونه نفس الأماني. لكن العجب من هذا السلوك سرعان ما يزول عندما تعلم أن عبد القادر الجزائري هو أيضا متابع للشأن السياسي في بلاده ومن شدة اهتمامه أنه صار يفهم كيف تدار اللعبة ويعرف أن هذا أو ذاك من السياسيين الجزائريين متى يقولون صدقا ومتى يكذبون. لهذا عندما تسأله عن سر مراهناته المستمرة على خسارة منتخب بلاده يرد عليك بسرعة أن الفوز يأتي بالفرح وأنه يرفض أن يفرح الجزائريون وهم يعيشون وضعا مزريا، لأن تلك الفرحة من شأنها أن تُفرح النظام وتجعله يستفيد من فترة سماح جديدة، بينما المفروض فيه أن يتهاوى مثل ورقة الخريف أو يسقط مثل تينة نتنة. تماما مثلما كانت أحداث الحادي عشر من سبتمر طوق نجاة مدّه منفذوها لكثير من الأنظمة الفاسدة في المنطقة.

وقد رأينا كيف أراح فوز الفريق الجزائري على المنتخبين المصري والزامبي ساسة الجزائر وبعث فيهم الأمل من جديد بأن وقاهم شر استمرار حنق الشعب عليهم، وبما أن الرياضة تحولت إلى أفيون لشعوبنا فلا عجب أن نرى الأنظمة السياسية تستثمر فيها وتولي أصحاب الأرجل القوية اهتماما يفوق اهتمامها وحرصها على توفير وسائل عيش كريم لشعوبها، فهذا أسهل لها من جلب فرحة حقيقية وحلول مستدامة للأزمات التي تنغص حياة الناس وتدفعهم إلى يأس طال أمده. علينا أن ننتظر ونرى إن كان أشبال المدرب سعدان سيكملون فرحة النظام بفوزهم في المقابلات الأخرى ومن ثم تأهلهم إلى كأس العام أم أن الفرحة ستعود إلى مُحيا عبد القادر وأنصاره!


المقال نشر يوم: 01-07-2009

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى