أحسن مهرجان في العالم.. جزائري!

تعيش الجزائر الرسمية هذه الأيام على وقع الطبول الإفريقية بمناسبة المهرجان الثقافي الإفريقي الثاني (الأول كان قبل 40 سنة!) الذي يعتزم منظموه أن يكون صورة مشرقة للقارة السمراء وثقافتها وإشعاعا لها نحو العالم. فبعد النجاح (الباهر) الذي عرفته تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية سنة 2007، قررت وزيرة الثقافة الجزائرية أن يكون المهرجان الإفريقي في نفس المستوى أو أفضل منه لتبقى التظاهرتان راسختين في ذاكرة العالم إلى أن يحين موعد المهرجان الثالث بعد أربعين سنة (من التيه).
لا أحد يعلم لماذا لا ينظَّم هذا المهرجان الثقافي الإفريقي إلا مرة واحدة كل أربعين سنة ولماذا وحدها الجزائر تتطوع لاحتضانه وما هو المقابل الذي تجنيه الجزائر وإفريقيا من خلال تنظيم استعراضات راقصة صاخبة في الشوارع والناس معرضون عنها. الجزائر كانت في تسعينات القرن الماضي تعيش عزلة موحشة بسبب موجة العنف المسلح التي عصفت بها، وكانت السلطات حينها تجتهد لفك الحصار عنها من خلال تنظيم مهرجانات محلية في معظمها لتُري للعالم أن الجزائريين يطربون ويرقصون ويتحدّون الإرهاب. كانت تلك خطة فاشلة وهروبا إلى الأمام لأن الرقص لم يُعد البسمة إلى الشعب ولم يدحر الإرهاب، فقد كانت الأزمة أكبر من أن تحل برقصات ومهرجانات وطمس للحقائق.
الجزائر وإفريقيا معها تعيش الآن مشاكل من نوع آخر وتواجه تحديات ورهانات عظيمة، الفقر والبطالة والانحراف والفساد والركود هي عناوينها الكبيرة، ولمواجهة كل ذلك اقترحت الجزائر تنظيم مهرجان رقص وغناء في الشوارع فوافق وزراء الثقافة في القارة سنة 2005 على المبادرة وعهدوا بها رسميا إلى الجزائر التي خصصت لها ميزانية تعادل 800 مليار سنتيم من العملة المحلية وانطلق المهرجان وأطلقت وزيرة الثقافة الجزائرية خليدة تومي جملتها المشهودة التي تؤكد فيها أن مهرجان الثقافة الإفريقي هو (أحسن مهرجان في العالم)، لم تقل هذا الكلام لأحد أقاربها ولم تحدث به نفسها أمام مرآة الحمام ولم تهمس به في أذن جارتها، بل أعلنته أمام الكاميرات ونقلته أيضا قناة الجزيرة مشكورة. نعم الوزيرة قررت أن المهرجان الذي تحتضنه الجزائر لمدة أسبوعين هو أحسن مهرجان في العالم أجمع، ولم تنتظر اختتام المهرجان لتقول ذلك أو تنقله عن رأي لجنة تحكيم دولية، بل حسمت الأمر منذ اليوم الأول من انطلاقه. وقبل أن يغضب منظمو مهرجان ريو دي جانيرو (ولا أذكر إلا هذا) على تصريحات معالي الوزيرة، أطلب منهم أن يتريثوا قليلا وأن يلتمسوا لمعاليها سبعين عذرا، فهي ربما واقعة تحت تأثير ما، أو أن مستشاريها أقنعوها بذلك، أو أنها لم تحضر في حياتها مهرجانا أحسن من الذي نظمته، أو ربما تقصد بكلمة العالم شيئا آخر غير العالم الذي يعرفه كل العالم، ربما تقصد بالعالم إفريقيا أو بلدها الجزائر! وقائمة الأعذار لا تزال طويلة ومفتوحة لمن يريد أن يجدها.
أحسن المهرجانات في العالم تستقطب آلاف الناس من كل القارات سنويا، وفنادق البلد المنظم تكون محجوزة عن آخرها واقتصاد البلد المضيف يزدهر وينتعش. فماذا عن مهرجان الجزائر؟ ليت وزيرة الثقافة تعطينا بعض الأرقام، كم ضيفا أو معجبا بالمهرجان حضر إلى الجزائر ودفع تذكرة السفر وتكاليف إقامته من جيبه؟ ما هو عدد الجنسيات التي حضرت المهرجان من كل قارات العالم، وليس عالم إفريقيا فقط؟ كم عدد تلفزيونات العالم التي حطت في الجزائر بمناسبة المهرجان وكم مقالا كُتب في الصحف والمجلات المتخصصة حول مهرجان الجزائر الإفريقي؟ أما إذا كان المقصود بالعالم هو الجزائر، فلنسأل كم من الجزائريين انتقلوا من مختلف (قارات) الوطن إلى العاصمة لمتابعة المهرجان؟ وكم جزائريا مستعد لدفع مصاريف التنقل والإقامة في فندق في العاصمة وشراء تذاكر لحضور فعاليات المهرجان؟
أما السؤال الجاد الذي أتمنى أن تجيبني عنه معالي الوزيرة فهو: لماذا قررت الجزائر أن تحيي مهرجانا اندثر منذ أربعين سنة؟ وما هي الفائدة المادية والمعنوية التي يمكن أن يجنيها الجزائريون والأفارقة على العموم من وراء مهرجان كهذا؟ مع التأكيد على أن المقصود بالجزائريين والأفارقة عموم الناس وليس الحكام ولا الحكومات والمستفيدين من ريع المال العام.
العالم يرزح منذ سنة تحت وطأة أزمة اقتصادية مالية شديدة، والجزائر لم تكن أبدا في مأمن من تداعيات تلك الأزمة، ومع ذلك يصر أهل الحكم الراشد فيها أن ينظموا مهرجانا قاريا يصرفون عليه من خزينة الدولة المليارات، لا لشيء إلا لكي يأتينا من أدغال إفريقيا رجال ونساء شبه عراة يرقصون ويطبلون ويأكلون ويشربون ثم يعودون من حيث أتوا في انتظار رؤية أحفادهم في المهرجان الثالث بعد أربعين سنة! الأقربون أولى بالمعروف، وما دامت الخزينة الجزائرية تفيض بالمال ولا تدري الحكومة ماذا تفعل به، فلماذا لا توزعه على أبناء بلدها من الشباب الذين لا يجدون عملا شريفا ينتسبون إليه ويؤسسوا بفضله عائلاتهم؟ المجال هنا لا يتسع لتكرار الكلام عن معاناة الشباب الجزائري من البطالة والإدمان والتهميش والإقصاء واليأس من العيش في وطنهم، لكن ذلك يبقى واقعا على المسؤولين أن لا يقفزوا عليه ويبحثوا عن حلول غير طبيعية له.
أما إذا اكتفى أبناء الجزائر أو إذا أرادت حكومة البلد توزيع الخير العميم على القارة السمراء، فهل تعتقد أن الرقص والقفز في الشوارع سيحل مشاكل الإفريقيين من الجوع والفقر والأوبئة؟ أليس الأفضل أن توزَّع تلك المليارات على بلدان القارة لاستثمارها في مشاريع تخفف قليلا من معاناة الشعوب؟ لكن للأسف للحكومات حسابات غير تلك التي تحسبها الشعوب، والأنظمة لا يهمها إلا أن تلمع صورتها بكل الوسائل والوسائط أما هموم وصورة الشعوب فتلك مسألة فيها نظر.
لعل حكام الجزائر أعجبهم مهرجان سنة 1969 فقرروا أن يحدثوا صوره لتكون هذه المرة بالألوان، مثلما حدثوا هم صورهم مع فارق السن وما فعلته عوامل التعرية الطبيعية في أجسادهم. حكامنا الخالدون في السلطة حنوا إلى حدث مرت عليه أربعون سنة فقرروا استنساخه كما هو، مع أن إفريقيا سنة 1969 ورهاناتها لم تعد نفسها في 2009، وحتى العالم لم يعد نفسه الذي كان قبل أربعين سنة، لكن العرب قديما قالوا: كل إناء بالذي فيه ينضح!
المقال نشر يوم: 08-07-2009