أفعى الماكارثية تزحف نحو فرنسا
محاكمات الناس وملاحقتهم بسبب آرائهم واضطهاد العاملين في حقل البحث العلمي ممارسات لا تزال شائعة في عصرنا، والمفروض أنها لا تثير استغرابا كبيرا عند معرفة تفاصيلها، لولا أن مسرح قضيتنا هذه ليس بلدا عربيا ولا حتى إسلاميا، بل هو مهد الديمقراطية الغربية وموطن حقوق الإنسان وحرية الفكر والرأي.
يوم الاثنين القادم (29 يونيو 2009) يقف الكاتب والباحث السياسي والاجتماعي الفرنسي فانسون جيسر أمام مجلس تأديب للدفاع عن نفسه والرد على اتهامه بإهانة زميل له برتبة ضابط، والاثنان كانا في صراع استمر عدة سنوات على خلفية أبحاث الكاتب واهتمامه الخاص بالعالمين العربي والإسلامي وقضاياهما.
قضية فانسون جيسر، الباحث في المركز القومي للبحث العلمي في فرنسا، تتناقلها منذ أيام وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة وقد جلبت لها تعاطف وتضامن كثير من الأساتذة والمفكرين والباحثين الفرنسيين الذين استنكروا تجسس وتدخل السلطات الأمنية في توجيه النشاط العلمي والبحث الجامعي. ظاهر القضية هي أن ضابط الأمن الموظف في مركز البحث العلمي التابع لوزارة التعليم العالي الفرنسية استاء من تهجم جيسر عليه في رسالة تداولتها بعض المواقع والمدونات. وكانت الرسالة عبارة عن موقف تضامن مع باحثة مسلمة طردتها جامعة تولوز3 في فبراير الماضي وقُطعت عنها منحتها الدراسية بسبب إصرارها على ارتداء الحجاب وهو الأمر الذي تمنعه القوانين الفرنسية في المؤسسات التعليمية لأنه يتنافى مع مبدأ علمانية الدولة. وكان مساعد موظف الأمن قد عمل على طرد الباحثة صابرينة تروجات من مركز البحث العلمي الذي تنتسب إليه مما حال دون إتمامها رسالة الدكتوراه في علم الأحياء الدقيقة التي بقي على نهايتها أقل من خمسة أشهر، وهي الآن من غير موارد مالية كافية لإنهاء بحثها. صابرينة تلقت رسائل تضامن كثيرة من طرف زملائها (ولم نسمع إلى اليوم أن أحدا من أثرياء العرب أو المسلمين قد تبرع لها بما يكفي من المال لإتمام بحثها)، وكان من بين زملائها الذين تضامنوا معها الكاتب والباحث فانسون جيسر الذي كتب لها رسالة خاصة وصف فيها فعلة موظف الأمن بما فعله النازيون ضد اليهود والذين أحسنوا إليهم في فرنسا فيشي. وقد تداولت المواقع رسالة فانسون الموقعة باسمه وصفته كباحث في المركز القومي للبحث العلمي، وكان هذا كافيا لموظف الأمن ليقتص من غريمه ويطيح به بعد خمس سنوات من القبضة الحديدية. والتهمة هي أن فانسون نشر رسالة في موقع عمومي ووضع فيها اسم المركز وأهان فيها زميلا؟! له، هو موظف الأمن جوزيف إيلاند. وقد ردّ فانسون على أنه وجه الرسالة بصفة شخصية إلى صابرينة ولم يبعثها إلى أي موقع أو مدونة.
هذا هو الجزء الظاهر من جبل الجليد في قضية جيسر مع موظف الأمن، إلا أن أصل الخلاف هو أعمق وأكبر من حكاية رسالة إلكترونية. يحكي فانسون جيسر كيف تحول اهتمامه بقضايا العرب والمسلمين وتصديه للهجمة الغربية الشرسة التي صوّرت كل ما له علاقة بالإسلام على أنه إرهاب وتطرف، وكان هذا كافيا لكي يجلب له شرور موظف الأمن الذي تقول إحدى باحثات المركز في شهادتها إنه قد يكون في رتبة جنرال وإنه يتدخل في كل ما يتعلق بالأبحاث والسفريات الخاصة لمنتسبي المركز إلى الدول الإسلامية، وكان يطلع على أدق تفاصيل خطط البحث والأسفار وإليه تعود الكلمة الأخيرة بالموافقة أو الرفض.
يقول جيسر إنه قرر خلال السنة الأكاديمية 2003/2004 الشروع في بحث عن الباحثين المغاربيين العاملين في مراكز رسمية فرنسية ومدى مساهمتهم في نقل معارفهم إلى بلدانهم الأصلية. وقد وافق المركز على إنجاز الدراسة وخصص لها مبلغ 20 ألف يورو كسقف أعلى لتمويلها، وانطلق العمل فيها سنة 2005 في ظروف معقدة ومثقلة يقول الباحث. فقد صدر له في فرنسا سنة 2003 كتاب بعنوان (الإسلامفوبيا الجديدة)، دافع فيه عن صورة الإسلام والمسلمين ورفض وصمهم بالتطرف والإرهاب، وقد ظهر الكتاب كصوت نشاز في غرب متكالب على الإسلام إثر أحداث 11 سبتمبر 2001. وكانت الحملة الإعلامية من اليمين المتطرف في فرنسا حجة لإخضاع جيسر إلى مراقبة ومتابعة لصيقة من طرف أعين الاستخبارات داخل المركز. ويروي فانسون جيسر أنه لم يكن يعلم بوجود موظف أمني في المركز إلا مع أواخر سنة 2004، عندما طلب مقابلته من أجل مناقشته في مسائل تتعلق ببحثه الجديد. وكان موظف الأمن قد برّر، في رسالة إلى مدير المركز الذي يشتغل فيه جيسر، طلب مقابلته الباحث بكون البحث الذي اختاره جيسر يتعلق بموضوع (حساس) في مركز (حساس) ويمس فئة (حساسة) تنتمي إلى منطقة (حساسة). ومنذ ذلك الوقت بدأ موظف الأمن حملة لمطاردة الباحث المتهم بموالاته للإسلام والمسلمين والعرب، وقد شرع (كما يقول جيسر) في ممارسة ضغوطه على الهيئات المحلية والإقليمية التابعة للمركز القومي للبحث العلمي للحد من نشاطات جيسر. وفي 2 فبراير 2006 قرر الضابط تفتيش مكان عمل فانسون جيسر رفقة مدير مركزه الإقليمي في ناحية إيكس جنوبي فرنسا، هنالك فوجئ جيسر أن النقاش لم يكن متعلقا بمسائل فنية ولوجيستية خاصة بالبحث، بل ازدادت دهشته عندما بدأ الضابط يستجوبه حول أفكاره ويناقشه استنادا إلى ملف كامل جمع فيه معظم تدخلاته وتصريحاته وكتاباته في ملتقيات ومؤتمرات ومجلات علمية داخل فرنسا وخارجها. في 15 مارس 2007 تلقى مدير مركز إيكس رسالة من الأمين العام للمركز القومي للبحث العلمي يأمره فيها بإتلاف جميع المعلومات والبطاقيات التي جمعها جيسر وفريقه بخصوص بحثه حول الباحثين العاملين في فرنسا من أصول مغاربية. وقد أخبرني أحد زملاء جيسر في هذا البحث أن إدارة المركز حجزت الكمبيوتر الخاص بجيسر وختمت عليه بالشمع الأحمر تنفيذا لأوامر الوصاية.
(الخطيئة) التي ارتكبها جيسر هو تعاطفه واهتمامه بقضايا الإسلام والمسلمين، وهو الاهتمام الذي فسّره موظف الأمن ومن لف لفه هو أن الباحث يحاول مع مجموعة أخرى تشكيل (لوبي عربي إسلامي) في فرنسا، وهذا أمر لا يرضاه كثيرون في فرنسا رغم أن هذه لم تكن نية جيسر ورغم وجود لوبيات أخرى تخدم أطرافا وقضايا ليست فرنسية خالصة بالضرورة. وكان الباحث المعروف والمختص في قضايا الإسلام داخل نفس المركز أوليفييه روا قد أدلى بشهادته هو الآخر بخصوص موظف الأمن الذي ساءله قبل سنتين عن سر اهتمامه وتعاطفه البيّن مع المسلمين، وأعرب روا عن أسفه لأنه تجاهل حينها رسالة موظف الأمن وتعامل معها بقلة اهتمام.
توقع المتابعون أن تنتهي قضية فانسون جيسر بتوجيه توبيخ له من قبل المركز، ولن ينتهي الأمر عند هذا، بل لعل (جلسة تأديب) جيسر ستكون نقطة انطلاق نقاش جاد في فرنسا وخارجها حول مدى تدخل أجهزة الأمن في قضايا البحث العلمي ونشاطات العلماء والباحثين والكتاب. ولعل الأخطر في كل هذا هو أن أطرافا رسمية في بلاد حرية الرأي ومهد حقوق الإنسان قررت أن يكون موضوع العرب والمسلمين خطا أحمر وقضية أمنية بالغة الحساسية، خاصة إذا تعلق الأمر بباحثين ليسوا من أصول مسلمة أو عربية بل يعتنقون ديانات غير الإسلام أو ربما لا يدينون بدين أصلا. البحث العلمي، في نظر هؤلاء، عندما يتعلق بالعرب والمسلمين والإسلام يجب أن يكون ذا اتجاه واحد ينطلق من فرضية أن هذا الجنس وأتباع هذا الدين يشكلون خطرا على مبادئ الثورة الفرنسية وعلى العالم المتحضر والديمقراطي أجمع. هذه هي الفرضية وهكذا يجب أن تكون خلاصات جميع الأبحاث والكتابات المتعلقة بالموضوع، وإلا فإن الآلة الاستخباراتية ستتحرك لتعيد الأمور إلى نصابها.
فانسون جيسر حظي بتأييد ودعم شريحة واسعة من زملائه الفرنسيين خاصة، وكان ضمن المتضامنين معه علماء ومفكرون كبار يرفضون أن يخضع البحث العلمي لاعتبارات أمنية وتدخلات موظفين عسكريين لأن ذلك سيفقد البحث العلمي جوهره وروحه. كما أن جيسر قد أظهر لحد الآن درجة كبيرة من الثبات والمقاومة، لكن الخوف أن يصاب يوما ما بانتكاسة ويلقى نفس مصير علماء ومفكرين ومثقفين آخرين مغضوب عليهم من أمثال المفكر رجاء غارودي.
المقال نشر يوم: 24-06-2009