ارشيف القدس العربي

طلع البدر علينا…

لعلها أحسن وأجمل هدية حطت عليهم من السماء، والذي زادها بهاء ورفعة أنها جاءتهم في شهر مبارك. إنهم حكام منطقة المغرب العربي والهدية هي ولا أحد غيرها، الآنسة كوندوليزا رايس.

طبعاً لا نملك إلا أن نشكر الإدارة الأمريكية التي تذكرت أن هناك حكاما عربا يرفعون أيديهم وأصواتهم طالبين القرب والرضا، ليس فقط منذ تولي الابن بوش مقاليد الحكم قبل ثماني سنوات، بل منذ خمسين عاما. كاد اليأس ينال منهم كما نال شعوبهم منهم، فجاءتهم البشرى. لقد قرر المستر بوش أن يبعث الآنسة رايس في جولة إلى المنطقة، ولا يهم أن تكون زيارة وداع أو تعارف أو مجاملة، فالمهم لأصحاب https://atrashfizzaffa.net/wp-admin/post-new.phpالفخامة والمهابة أن تنزل طائرة الآنسة في بلادهم كما تنزل في بلاد عربية أخرى ويتقابلوا معها وجها لوجه، ثم الأهم أن يخلدوا الزيارة بصورة تذكارية جميلة.

هل رأيتم كيف كانت الفرحة تعلو وجوه قادتنا الأكارم وهم يستمعون إلى الآنسة تخاطبهم وتتبادل معهم النكات والأخبار العامة وتودعهم بكلمات راضية مرضية عنهم وعن حكمتهم وحسن تدبيرهم وتسييرهم لشؤون بلدانهم. لم تجلس مع كل واحد منهم إلا ساعات معدودات نصفها ذهب في الاستماع إلى المترجم، ومع ذلك فقد اطمأنت الآنسة الفاضلة إلى أن مضيفيها حريصون على أن تبقى العلاقات بين واشنطن وبلدانهم أصفى من اللبن الخالص. شكرتهم على تطميناتهم التي ما كانت تشك فيها وعلى حسن الضيافة ثم ودعتهم وودعوها ولا ندري إن كانوا طلبوا منها أن تبلغ رئيسها برغبتهم أن يروه هو الآخر يقرر الاستمرار في الحكم لفترة ثالثة ورابعة، ولا غرابة في ذلك لأنهم يحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم وإذا كانوا هم يفعلونها دون حرج فلماذا لا يفعلها بوش؟ ألم يقدِّم رئيس خالد آخر نفس النصيحة للرئيس الروسي بوتين قبل انتهاء عهدته؟

عرفنا أمريكا رائدة في مجال حقوق الإنسان والحريات في جميع مظاهرها، وتألق الرئيس بوش بمشروعه عن “الشرق الأوسط الجديد” ثم بالمشروع المنقح “الشرق الأوسط الكبير” القائم على أساس نشر الديمقراطية والحكم الراشد في هذه المنطقة من الأرض. وتوقع المتعلقون والمتفائلون بهذا المشروع الرائد أن تكون زيارة الدكتورة رايس فرصة لأخذ تعهد من القادة الأكارم أن ينفتحوا على شعوبهم وأن يلتزموا بنشر المبادئ الديمقراطية في بلدانهم وأن يمنحوا قيمة أكبر لشعوبهم ويحترموا رعاياهم. وفعلاً تعهّد الحكام أن يحفظوا لأمريكا مصالحها في المنطقة وهم لم يقصروا، وأن يبذلوا جهودا أكبر في التعاون من أجل لجم الإرهاب وعدم السماح له بتجاوز حدوده. فرحت رايس لهذه الوعود والتطمينات وركبت طائرتها مطمئنة ورجعت إلى رئيسها راضية.

أما الشعوب وتنظيمات المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان والمقهورون فعليهم أن ينتظروا فرصة أخرى. ربما تحدث معجزة مع الإدارة القادمة أو يترقبوا نضوب حقول النفط والغاز وزوال خطر الإرهاب العالمي نهائيا. قالت رايس للعقيد إن أمريكا لا تتخذ لها أعداء دائمين كما أنها لا تصر على مبادئها ومعتقداتها إذا تبين لها أنها تتناقض مع استمرار مصالحها. وحكامنا يعرفون هذا جيدا فتراهم يحرصون على ضمان وترقية هذه المصالح لأن المنفعة من ورائها مشتركة بينما لا فائدة من إقامة أية مصلحة مع شعوبهم خاصة إذا كانوا يهددون مصالحهم وبقاءهم.

الحلف بين حكامنا ودركي العالم ازداد إذن متانة وما على الشعوب التواقة للحرية إلا أن تبحث لها عن سند خارج أمريكا يعيد لها كرامتها، قد لا يكون حليفا خارجيا، لكنها ستجده حتما إذا أرادت ولا بد أن يستجيب القدر.

قد يقول قائل إن مستقبلي رايس وقفوا وقفة رجل واحد ضد محاولة هيمنة أمريكية جديدة على المنطقة من خلال رفضهم مقترح إقامة مركز للقيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا. لكن هل هذه كانت رغبة ملحة من إدارة بوش؟ ربما. وربما قررت نسيان الفكرة بعد أن قيل لها من طرف خفي إن في كل بلد قاعدة قادرة على محاربة القاعدة الأخرى بوسائل أنجع وأفضل من القاعدة الأمريكية والأفضل لكم أن تعتمدوا علينا بدل فتح جبهة بهدلة أخرى إلى جانب جبهتي العراق وأفغانستان. وماذا يريد الأمريكيون أحسن من هذا؟!

متفائلون آخرون تمنوا أن تكون زيارة رايس فرصة لشد آذان الفرقاء وإجبارهم على الاتفاق على حل نهائي لمعضلة الصحراء الغربية، وغاب عن القوم أن بوش غارق مع إدارته في دوامة الدولة الفلسطينية التي لن تقوم رغم وعد مقطوع برفع علمي البلدين في سماء فلسطين قبل نهاية العام الجاري. وأحسن التوقعات بشأن قضية الصحراء الغربية أنها لن تُحل قبل أن تقوم قائمة دولة فلسطين، هذه هي إرادة أطراف النزاع وفي ذلك أيضا دوام لمصالحها، وقد رأينا مع جولة رايس كم هي المصالح مقدسة.

***

كان الاتفاق الليبي الإيطالي فرصة جديدة لكثير من الجزائريين ليتذكروا أن لهم هم أيضا حق على فرنسا لتعتذر لهم وتعوضهم على سنوات الدمار والطمس التي فعلت فعلتها في الجزائر. ما دام برلسكوني اعتذر ووقع على اتفاق بدفع 5 مليارات دولار لليبيين على مدى 25 عاما تعويضا على ما فعله الاستعمار الإيطالي في ذلك البلد، فلماذا لا يفعل ساركوزي نفس الشيء ونفتح صفحة بيضاء (هل هي الآن سوداء؟) مع مستعمر الأمس؟ حسب علمي الجزائريون وحدهم تحركوا وأفصحوا عن أمانيهم أن ينالوا من فرنسا ما نال الليبيون من إيطاليا أو بالأحرى ما سينالون. العارفون بخفايا الأمور يقولون إن ليبيا حققت فعلا نصرا أمام العالم، ولا يهم أن يكون نصرا معنويا أو حتى إعلاميا، لكن إيطاليا وتحديدا برلسكوني حقق نصرا مضاعفاً. وما دام الحديث مبنيا على المصالح فما يضير أي مسؤول أن يخطو خطوة مثل التي خطاها برلسكوني إذا كان متأكدا أنها ستعود عليه وعلى شركاته وبلده بالفائدة الأكيدة.

ولكن ألا توجد لفرنسا فوائد ومصالح في الجزائر حتى تصر على رفض الاعتذار عن مجازر ومصائب اقترفتها في حق الجزائريين طيلة 130 سنة من الاستعمار؟ السؤال لا يحتاج إلى جواب، ولكن يستدعي سؤالا آخر، هل بإمكان الجزائر أن تجبر فرنسا على تقديم اعتذار رسمي للجزائريين وتعويضهم على ما فعلوه في حقهم؟ وهل يمكن للسلطات الجزائرية أن تفعل شيئا غير الكلام لانتزاع اعتراف واعتذار من فرنسا؟ قد يكون ذلك ممكنا في حالة واحدة.. أن تتعرض الجزائر لحصار شامل لعدة سنوات مثلما حدث مع الليبيين، وبعدئذ يكون لها وقت للتفكير واختيار من يستفيد من خيراتها، وحينها فقط قد تجد فرنسا نفسها مجبرة على التفاوض من أجل استرجاع مكتسباتها وسيكون الاعتذار وقتها أسهل لها من تضييع مستعمرة في حجم الجزائر.

قد يكون النظام الليبي حقق نصرا مهما في صفقة برلسكوني، لكن هل يأمل الليبيون الذين كانوا ضحية النظام الجماهيري أن يأتيهم يوما من يعتذر لهم ويعيد لهم الاعتبار ويعوضهم ماديا ومعنويا على ما فُعل فيهم طيلة سنوات الثورة؟ مرة أخرى عليهم أن لا يحلموا بعصا غليظة تسقط على رأس النظام من الخارج، فالدنيا مصالح وللمصالح أيضا فقه أولويات!


المقال نشر يوم 09-09-2008

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى