العرب وحكامهم الطغاة.. قصة حب خالدة!

يوما بعد يوم يتأكد المواطن العربي المغلوب أن خلاصه من طغاة الحكم لن يكون إلا على يد أطراف أجنبية. وبما أن (الجزمة) المسلطة على رقبة هذا المواطن المقهور شديدة الوطأ، فإن آخر الاهتمام أن يفكر المضروب بالجزمة في هوية مخلصه ونيته وإن كان يريد فعلا تخليصه أم أنه يستغل ذلك تحت عنوان (الاستعمار الجديد) أو أي عنوان أو غطاء آخر. وآخر النكت هي أن يصدق المرء أن هذا المواطن العربي المنهك والمنتهَك مستعد للموت تحت (جزمة) حاكمه على أن يأتيه الخلاص من الخارج.
تقولون وكيف تفسر خروج مئات الآلاف إلى الشوارع هاتفين بحياة القائد ومقبلين (جزمته) النتنة ومقترحين عليه فداء بالروح وبآخر قطرة من دمائهم قبل أن تصل إليه يد أجنبية لوقفه عن غيه؟ وماذا أيضا عن الحشود المؤلفة التي تسارع يوم الاقتراع للتصويت على الحاكم (بالجزمة) والدعاء له بطول العمر ليواصل مسيرته النبيلة ومشروعه الحضاري لخدمة بلده وشعبه العزيز؟ لكن ماذا أيضا عن الملايين التي صوتت بدمها الحار على القائد صدام حسين وعشرات الملايين التي خرجت في شوارع العالم العربي تهتف بحياته وتتوعد كل من تسوّل له نفسه لمس شعرة من رأس رافع رأس الأمة وحامي كرامتها؟ أين هذه الملايين الآن وأين القائد البطل؟
مناسبة هذا الكلام هي ما نشاهده هذه الأيام من رد فعل بدأ في السودان، وننتظر بفارغ الصبر أن ينتشر في باقي أقطار عرب الصمود والتحدي، بعد صدور مذكرة المحكمة الجنائية الدولية الخاصة باعتقال الرئيس البشير. نفس الصور شاهدناها في العراق قبل سنوات، جماهير غاضبة ومتوعدة وقائد متحد بكل اللغات وكل ما حوته خزائنه من أزياء مدنية وعسكرية ونياشين. لم يكن عند عرب العزة والتحدي أدنى شك في انتصار القائد، وكل ما كانوا ينتظرونه هو اليوم الذي يقف فيه بطل كل المعارك معلنا انتحار جنود الاحتلال على أسوار بغداد. مرت الأيام واختفى القائد في الحفرة واختفت معه تلك الأصوات الشجية الندية وتلاشت وعود (بالروح، بالدم نفديك يا بطل) واستيقظ العالم على خبر اعتقال القائد ثم محاكمته وإعدامه. اختفى القائد وخفتت الأصوات فلا تسمع إلا همساً، وطفت إلى السطح الحقيقة المرة، بلد من أكبر وأعرق بلاد العرب يتمرغ في وحل فتنة لا يعلم نهايتها إلا الله.
بكاؤنا على العراق لن يفيد في شيء، كما أن البحث عن أسباب ما وصل إليه بلد الحضارات الألفية مضيعة للوقت، تماما مثل الجدل حول إن كان بوش الصغير هو السبب في كل ما حصل أم هو صدام الكبير. رحل صدام إلى ربه وعاد بوش إلى مزرعته وبقي العراق والعراقيون يصارعون فتنة لا قِبل لهم بها.
ربما كان رئيس السودان صادقا عندما قال إنه اكتشف لأول مرة أن شعبه يحبه كل هذا الحب، لا نتوقف كثيرا للتأكد إن كان شعب السودان يحب رئيسه فعلا وصدقا أم لا، فشعب السودان كشعب العراق وكل شعوب العرب الأخرى المحكومة بالحديد والنار. لكن لنتأمل كثيرا وطويلا في قول الرئيس (أبوجزمة) أن مذكرة دار أوكامبو جعلته يكتشف حب شعبه له، أي أنه كان يحكم شعبه وهو يؤمن أنه لم يكن محبوبا أو لنقل إنه كان يشك في ذلك، حتى جاءت مذكرة المحكمة الجنائية الدولية فكشفت له الحقيقة، وحقا عليه الآن أن يشكر أوكامبو ويكرّمه قبل أن ينصرف لشعبه ليبادله حبا بحب ويستمر في استعراض عصيه وعكازاته وسيوفه ورماحه التي يهش بها على الآلاف المحتشدة والهاتفة بحياته كل يوم وفي كل مكان حتى في دارفور.
شعوب العرب في مجملها (حتى لا نعمّم) تتعرض لأفظع الإهانات على أيدي حكامها ولا تنكر عجزها عن التحرك للتخلص من (الجزم) المسلطة عليه، حتى إذا جاء من يستغل عجزها ليعرض مساعدته لها لزحزحة الظلمة والظلم عنها انتفضت ورأت في ذلك مؤامرة وعودة للاستعمار بوجه جديد، وبعدها تنطلق مظاهرات الاستنكار ضد الخارج والتأييد للحاكم والقائد البطل. لا يوجد عاقل يقبل أن يستعمره الأجنبي، لكن هل هناك عاقل يصدق أو يفهم ما هو السر الذي يجعل الآلاف أو الملايين تلتف حول رجل أو نظام ينهب ثروات بلده ويسخرها لخدمة مصالحه ومصالح أهله ويحكم بالحديد والنار ويزج بأبناء شعبه في غياهب السجون دون محاكمة أو بمحاكمات شكلية ظالمة؟
الرئيس السوداني كان منذ بداية توجه أنظار العالم إليه بسبب فتنة دارفور متحديا ومتوعدا. لا ندري هل كان يستبعد أن يصل الأمر بأوكامبو وجماعته إلى إصدار مذكرة التوقيف، أم أنه واثق من قدراته ومن قدرات شعبه الذي يحبه على تحدي هذا العالم. لكن الظاهر الآن، وبعد خرجاته وتوعداته وقراراته الأخيرة، أنه قرر أن يسلك طريق التحدي وأن لا يستمع إلى نصائح الأصدقاء بأن يقلد أخاه عقيد الجماهيرية في انحناءاته الجميلة أمام كل ريح عاصفة. فقد وضع الرجل المدعي العام أوكامبو والمحكمة الجنائية وكل العالم تحت جزمته تلك، وليس لنا إلا أن نتمنى له الصبر الجميل والعزيمة القوية واستمرار حب الشعب له لأن الجماعة إياهم معروفون بطول النفس والتحرك بتؤدة وثقة نحو أهدافهم حتى تسقط كما تسقط الغزالة خائرة بعد مطاردة طويلة.
هدد الرئيس البشير الغربيين باتخاذ قرارات صارمة وحازمة تجاههم إذا ما تمادوا في مضايقته، وها هو يشرع في تنفيذ تهديداته بأن أصدر قرار طرد المنظمات الإنسانية العاملة منذ سنوات في إقليم دارفور، ولم يكتف بهذا بل اتهمها بالتخابر مع المحكمة وبأنها تصرف 99.9% من ميزانيتها على أعضائها ولا تترك لأهل دارفور إلا 0.1% من هذه الأموال. ولا ندري إن كان مثل هذا الكلام، ولو كان صادقا وصحيحا، سيدين تلك المنظمات أم الرئيس البشير لأنه يعلم أن أهل بلده الأعزاء أبناء دارفور لا يتلقون إلا 0.1% من مساعدات تلك المنظمات الإنسانية الدولية وسكت عن الأمر وترك شعبه يموت جوعا وعطشا وبردا. ثم جاءت تصريحات المسؤولين الحكوميين السودانيين الآخرين ليقولوا لنا إنهم أولى برعاية أهل دارفور وكل شعب السودان ومناطقه من المنظمات الدولية، لاحظوا أن هذا الكلام صدر بعد صدور مذكرة التوقيف وبعد قرار طرد المنظمات الإنسانية، ثم إنهم قالوا إن الحكومة أولى بمساعدة أهالي دارفور ولم يقولوا إن الحكومة كانت تساعدهم وقدموا لإثبات ذلك إحصائيات وأرقاما وصورا.
مسيرات التحدي وقرارات الطرد ليست إلا خطوة أولى تتبعها خطوات أخرى أكثر جرأة على أن تكون نهاية القبضة الحديدية صدور قرار من المحكمة الجنائية بسحب مذكرة توقيف الرئيس البشير (وليس تجميدها كما يريد العرب والأفارقة) وتقديم اعتذار رسمي من المحكمة ومن أوكامبو نفسه. أتخيل البشير يقول (أنا لست صدام حسين، والسودان ليس العراق والأيام بيننا)، يقول ذلك لأنه متأكد من انتصاره على كل العالم الظالم الذي حسده على حب شعبه له من أقصى البلاد إلى أقصاها ومن أدناها إلى أدناها. ولو أنني لمست أدنى شك في أن البشير القائد قد يلقى مصيرا مشابها لمصير صدام لنصحته أن يتوقف عن خروجه على العالم بملابسه التنكرية الرائعة وأن يحافظ عليها في دولابه لوقت الحاجة، لكنني متيقن من فوزه ومن أن الكلمة الأخيرة ستعود إليه.
أما الخطوة التالية المرتقبة فهي أن يستقل طائرته الرئاسية إلى الدوحة لحضور القمة العربية، وهناك سيلقي خطبة عصماء يضع فيها أوكامبو وكل العالم الذي يتربص به عند حده. هذا طبعا إذا لم يتقرر عدم توجيه الدعوة له لحضور القمة حفاظا على سلامته ومستقبله.
نبرة التحدي القوية التي ظهر بها البشير تنبئ أنه أعد خطة محكمة للرد على أوكامبو وجماعته، فهو سيواصل خطوات التأديب بأن يشرع في زيارات إلى مختلف الدول العربية والصديقة بعد أن ينتهي من جولاته الداخلية، على أن تكون آخر رحلة له إلى لاهاي، ليس للمثول أمام محكمة لا يعترف بها، بل ليقابل أوكامبو وكل قضاة المحكمة الجنائية الدولية ويضربه بجزمته ثم يعود إلى بلده معززا مكرما.
المقال نشر يوم 11-03-2009