ارشيف القدس العربي

المصالحة في الجزائر.. بوتفليقة يتكلم وأويحيى يمارس الحكم!

من مفارقات البدع السياسية في الجزائر أن مغازلة المواطنين والناخبين لنيل رضاهم وأصواتهم في الانتخابات لم تعد تستند إلى وعود اقتصادية وتنموية واجتماعية حتى، بل الأهم من كل ذلك هو الوعد بشيء اسمه (المصالحة الوطنية)، وكان هذا الحصان الذي ركبه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في جميع حملاته الانتخابية التي خاضها خلال عشر سنوات اعتقادا منه أنه الرهان الرابح. عشر سنوات، وربما عشرون سنة أخرى لن تكفي لتحقيق وعد عزيز على الجزائريين اسمه المصالحة الوطنية، فالمرء إذا سلك طريقا مستقيما سيصل إلى مبتغاه في أقرب وقت وبأقل تكاليف ممكنة، أما إذا اعتمد سياسة بعض تكاسي القاهرة واختار طرقا ملتوية فإن تعريفة العداد سترتفع وميعاد الوصول لا يعلمه إلا الله. هذا إذا سلمنا أن في التاكسي سائقا واحدا، أما إذا كان هناك سائقان أو أكثر يتناوبون على الراكب فإن المسألة ستكون أعقد.

والمشكلة في الجزائر أن قطار المصالحة الوطنية صار بقاطرتين متجاذبتين والنتيجة أن الركاب اكتشفوا أنهم لم يغادروا محطة الانطلاق بعد. فالرئيس بوتفليقة عندما وصل إلى الحكم سنة 1999 كان يحلو له التأكيد لزواره الأجانب خاصة أنه طرف محايد في الأزمة التي ضربت الجزائر عقدا من الزمن، فهو غير محسوب على الطغمة الحاكمة ولا علاقة له بالإسلاميين المتشددين، لذلك كان يبدو حريصا على أن يكون حكماً بين هؤلاء وهؤلاء وأن يسلك أقصر الطرق لطرد كابوس الإرهاب نهائيا عن الجزائر. وقد استبشر كثير من حاملي السلاح من المتشددين خيراً واعتقدوا أن عودتهم إلى أهاليهم وإلى أحضان مجتمعهم (كما وعدهم فخامة الرئيس) باتت وشيكة وأكيدة، وكان كلما تعثر المسير ظنوا خيرا وانتظروا موعد الانطلاقة القادمة بتفاؤل مستمر، فالوعود كثيرة ومطمئنة ومطلقها ليس أي شخص. ثم تبين أن الطريق ليس بالسهولة والبساطة التي صُوِّرت لهم، ومع ذلك فقد سلّم الجميع ورضوا بسياسة الجرعات ولسان حالهم يقول (أن تصل متأخرا خير من أن لا تصل أبداً). وقد اعترف الرئيس بوتفليقة نفسه أكثر من مرة بأن طريق المصالحة ليس مفروشا بالورود كما كان يتوهّم، بل إن هناك مقتضيات وتوازنات داخلية تكبح المسيرة وأن هناك ضغوطا يومية تمارس عليه وهو صابر عليها ابتغاء تحقيق الهدف المنشود. وكان هذا أهم أسباب تعطل القطار أو مراوحته مكانه، ولا أحد، إلا هو، يعلم إن كان الرئيس بوتفليقة اختار بنفسه الارتماء في أحضان أحد أطراف المعادلة أو أنه فعلا مقيّد اليدين ولا حرية له إلا حرية الكلام! فقد استطاع بلسانه أن يرسم للجزائريين جنة من الوعود، لكن شتان بين الأحلام والواقع عندما تطلع شمس الصباح.

وكانت مناسبة عرض برنامج عمل الحكومة على البرلمان خلال الأسبوعين الماضيين فرصة (جديدة) ليقف الجزائريون (مجددا) على واقع تعامل أولي أمرهم مع ورقة المصالحة الوطنية. وقد وقف الوزير الأول يبين للناس أن المصالحة الوطنية أمر لا مفر منه وأنها لا تزال في صلب برنامج فخامة السيد رئيس الجمهورية وهي بالتالي من ضمن أهم محاور عمل الحكومة للسنوات الخمس القادمة. ولأن الوزير الأول محسوب على أحد أطراف المعادلة الجزائرية وتاريخه القريب مشحون بتصريحات سياسية متطرفة لا تساهم أبدا في تحقيق المصالحة الوطنية كما يتصورها السواد الأعظم من الجزائريين، فإنه فضّل أن يقدّم تفسيره الخاص للمصالحة الوطنية التي يؤمن بها أو لنقل التي يرضى بها. فالمصالحة الوطنية حسب أحمد أويحيى هي بالأساس “مصالحة مع الذات ومصالحة مع الوطن”. هل فهمتم شيئاً؟!

كل الأزمة الجزائرية والاقتتال الداخلي والفتنة التي تعصف بالجزائر منذ سنوات علاجها في أن يتصالح الجزائريون مع ذواتهم، هذه هي وصفة الدكتور أويحيى. الجزائريون متخاصمون مع أنفسهم، وهم يتقاتلون ويلعن بعضهم بعضا منذ حوالي عقدين من الزمن لأنهم في خصومة مع ذواتهم. الجزائريون نساء وشيوخا وشبابا وحتى أطفالا ينتحرون إما غرقا في قوارب الهجرة غير الشرعية المميتة أو شنقا أو إدماناً إنما يفعلون ذلك لأنهم متخاصمون مع أنفسهم، ولا ينبئك مثل خبير. والحل لوقف كل هذه المآسي لن يكون إلا عن طريق المصالحة مع الذات والمصالحة مع الوطن.

لم يقل لنا معالي الوزير الأول كيف ستتحقق مصالحة الجزائريين مع ذواتهم ومع وطنهم، ولم يقدم تفصيلا لما تنوي الحكومة فعله لتحقيق هذه المصالحة التاريخية. لم يقل لنا مثلا إن الحكومة قررت تخصيص ميزانية تحت بند المصالحة مع الذات ومع الوطن أو إنها ستشكل وزارة خاصة للمصالحة مع الذات ومع الوطن أو إن هناك قرارا بفتح الآلاف من مناصب الشغل لعلماء النفس في الجزائر وفي العالم أجمع ليبدأوا جلسات علاج جماعية وفردية مع الجزائريين حتى يتصالحوا مع ذواتهم ومع وطنهم وتتحقق بذلك المصالحة الوطنية التي طالما حلم بها الجزائريون واشتاقوا إليها. دكاترة علم النفس سيصعدون أيضا إلى الجبال والغابات ويطلبوا من أفراد الجماعات المسلحة الخضوع لجلسات علاج المصالحة مع الذات ومع الوطن في مصحات نفسية تُنشَأ هناك لهذا الغرض.

لن يكون هناك قانون ولا استفتاء (آخر) حول عفو شامل أو مصالحة وطنية مثلما يتوهم المحسوبون على الرئيس بوتفليقة. بل كل ما علينا أن نتوقعه مستقبلا هو سيول من دموع الندم وارتماء الجزائريين في أحضان بعضهم البعض متصالحين متحابين ثم يتجه الجميع إلى محراب الوطن لإعلان تحقيق المصالحة الكبرى.

وباقي الكلام عن الهوة بين النظام والشعب وعن تعرض الجزائريين للتهميش وظلم الحكام وانتشار ظواهر الفساد والبطالة واليأس ليس إلا كلاما مغرضا يروّج له أعداء الوطن والشعب، بينما الحقيقة واضحة ساطعة عنوانها (الأزمة في الجزائر سببها تخاصم المواطن مع ذاته ومع وطنه).

والحقيقة أن كلام أويحيى عن المصالحة مع الذات ليست وليدة اليوم، بل كثيرا ما كان يردد هذا الكلام ليقول أولا إنه لا يرى مانعا أن يكون مجندا مع الرئيس بوتفليقة الرافع لشعار المصالحة الوطنية وثانيا ليؤكد أن هناك فرقا بين ما يتبادر إلى أذهان الجزائريين عندما يسمعون رئيسهم يحدثهم عن مشروع المصالحة الوطنية الكبرى وبين ما يراه أهل الحكم الفاعلين في موضوع هذه المصالحة. فقد كان الوزير الأول من أهم رجال واجهة الحكم في الجزائر عندما كان الحديث عن المصالحة الوطنية جريمة متعددة الأبعاد، وعندما كان المسلحون في الجبال أشد خطرا من الشيطان الرجيم ومن الطاعون أيضا. ثم أتى اليوم الذي يسمع فيه الجزائريون أن هؤلاء المسلحين إخوتنا وعلينا أن نستقبلهم بالتمر والحليب ونسمح لهم بالعودة إلى أحضان مجتمعهم معززين مكرمين وأن نقابل ما ارتكبوه من جرائم بالصفح الجميل، كل هذا الكلام يقال ورمز عهد الاستئصال لا يزال هو الآخر متنقلا بين أروقة الحكم وفي مناصب تنفيذية حساسة.

هل تحول أويحيى إلى رجل مؤمن بالمصالحة الوطنية كما يقدمها خطاب بوتفليقة أم أنه فهم أن السياسة في عهد بوتفليقة لا بأس أن تسير بسرعتين مختلفتين، بل حتى متضادتين، سياسة الكلام وسياسة الأمر الواقع؟ لذلك فهو يؤكد أن الحديث عن المصالحة الوطنية لم يعد محرما ما دام فخامة الرئيس يرى ذلك والشعب يرتاح لهذا الكلام، لكنه في المقابل يؤكد أنه يستحيل عليه أن يحول الكلام إلى ممارسة سياسية في عمله، وإذا كان لا بد من توضيح فهو ما تضمنه في حديثه عن المصالحة مع الذات ومع الوطن. قد يكون هذا كلاما غامضا، لكنه لن يكون أشد غموضا من القوانين التي تؤكد على أن الجزائريين دخلوا عهدا جديدا اسمه عهد المصالحة الوطنية وأن كل واحد عاد إلى أحضان مجتمعه صار واحدا من هذا المجتمع له ما للجميع من حقوق سياسية واجتماعية ووطنية أخرى وعليه ما على الجميع من واجبات، لكن الواقع يبقى شيئا آخر ومن أهم خصائصه أن الذين كان مغضوبا عليهم في وقت ما سيبقون كذلك ولن يكون لا لهم ولا لأولادهم نصيب في العيش مثل باقي الجزائريين، لأن قوانين المصالحة والكلامولوجيا لا يمكنها أبدا أن تمحو نقطة العار الموصومة على جبين الإخوة المغرر بهم.

ونخشى أن تتكرس سياسة القاطرتين إلى الأبد في الجزائر فيصبح الجزائريون مجبرين على التعامل مع رئيس (يتكلم ولا يحكم) ووزير أول يمارس الحكم كما يريد أهل الحل والربط. الجزائريون لا يزالون لحد الآن يشترون الكلام ويكتفون بذلك ويتركون لغيرهم المجال واسعا لممارسة سياساتهم وليس مشروطا أن تكون سياسات تخدم الشعب أو الوطن.


المقال نشر يوم: 03-06-2009

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى