المغرب العربي.. ذلك المنسي من “مصالحات الكبار”!
الشارع السياسي العربي صار يرقص هذه الأيام على إيقاع موضة المصالحة العربية العربية، الجميع بات مفروضا عليه أن يرقص على الإيقاع ولا يهم إن كان مقتنعا بذلك أم لا أو حتى إن كان جاهلا لتقنيات رقصة المصالحة هذه. المهم أن نصفق ونرقص لأن كبار القوم أصدروا قرارا بذلك وعلينا أن ننتظر قرارا آخر لنتوقف أو ننتقل إلى رقصة أخرى.
ما أسهل على حكامنا القفز من رقصة إلى أخرى. هكذا بقرار أو خطاب يتحول الخصام إلى عناق والعداوة إلى تآخ، ولا يثير الشفقة وسط هذا المشهد إلا أولئك (الكتبجية) الذين يترقبون باهتمام ما يصدر من هذا الزعيم أو ذاك ليقرروا إن كانوا سيخرجون من جيوبهم القلم السام أو المعسل، فالسم والعسل متوفران عندهم واستعمالهما يكون حسب الإشارة، وما علينا إلا العودة إلى أرشيف هؤلاء لنرى كيف يتحول عندهم الشيطان إلى ملاك ثم إلى شيطان رجيم ثم إلى مبعوث سلام، وكيف يتحول نظام معين من مفسد إلى مصلح ومن محور الشر إلى محور الخير. ولعل أقرب إبداع صدر في هذا المجال هو الأوصاف التي أطلقت على النظام السوري وعلى الرئيس بشار الأسد. والحق أنني لم أعرف هل علي أن أضحك أم أبكي وأنا أقرأ وأسمع أن سوريا صارت ضمن المثلث العربي الذهبي ومن أعمدة العالم العربي وأن لا كبير في دنيا العرب إلا مصر والسعودية وسوريا وباقي الدول عليها أن تحوم حول هذا الكوكب المثلث. ماذا فعلت سوريا حتى تقفز من محور الشر إلى محور الخير هكذا في لمح البصر؟ سوريا التي كانت الآفة الكبرى والدولة المارقة الواجب تأديبها تحولت بين فصل وآخر إلى دولة شقيقة وكبرى كمان! هل تغير النظام في سوريا، أم هل صار حاكمه رجلا آخر غير الذي كان قبل بضعة أشهر فقط؟ هل أعلنت سوريا مثلا توبتها وذهبت راكعة إلى الشقيقتين الكبريين تسألهما الصفح والرضا وتتوسل إليهما لتعيدها إلى الصف العربي المعتدل؟ هل أعلن الرئيس الأسد مثلا في خطاب (لم نسمعه) براءته من حركة حماس وأمهل خالد مشعل 48 ساعة ليغادر دمشق ويغلق مكتب الحركة هناك، أم أنه بعثه في طرد بريدي إلى رام الله لترسله بدورها إلى حيث يجب أن يذهب؟ أم هل أصدر الأسد قرارا (لم نقرأه) يعترف فيه بمسؤولية سوريا في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري ويعلن تسليم المتهمين بارتكاب الجريمة النكراء إلى المحكمة الدولية؟
قبل أقل من عام كانت الحرب على سوريا على أشدها، ولا نذكر أن قمة عربية حظيت بتكالب وتآمر لإفشالها كقمة دمشق الأخيرة. كان الإجماع قائما على أن تلقَّن دمشق درسا عربيا عجزت عن تلقينه إياها جميع آليات المحافظين الجدد وحلفائهم الغربيين. كان الهدف أن تعلن دمشق تراجعها عن احتضان القمة وتنقل إلى دولة المقر كأحسن حل لإنقاذ أهم لقاء دوري للقادة العرب، وفي هذا اعتراف صريح بانكسار شوكة نظام الأسد. لكن الذي حصل هو أن القمة انعقدت بمن حضر ولم يؤثر غياب المقاطعين كثيرا، إلا في أن مواقف السوريين ازدادت صلابة وأحاطوا أنفسهم بعوازل بديلة تقيهم شر العواصف المسلطة عليهم. فما كان من كبار القوم إلا أن يطبقوا نصيحة أهل التيبت القائلة (إذا عجزت عن محاربة عدوك فعانقه)، وتحولت الخصومات والحروب الإعلامية والسياسية إلى جلسات ود وتقارب ومقالات اعتراف وخطابات إكبار.
تفسيرات هذا التحول اختلفت بين قائل إن الشقيقتين الكبريين لما تأكدتا أن الغرب متوجه جديا لفتح ذراعيه لسوريا قالتا نحن أولى بشقيقتنا من الغريب، وبين قائل إن سائقا قاطرة العرب قررا أن يمدا يديهما إلى دمشق لتنتشلاها من أحضان الملالي وتعيداها إلى الصف العربي قبل أن يستفحل التغلغل الفارسي في الجسد العربي ويستشري الداء في كل الشارع العربي، خاصة أن الحرب الإسرائيلية على غزة حملت بوادر هذا الانقلاب الذي يهدد الأنظمة العربية العتيدة في صميمها.
المهم أن سوريا أعيدت إلى الحضن العربي الدافئ من دون أن تحصل الشقيقتان على وعد بخصوص إدارة دمشق ظهرها لطهران، وأعلن الأسد أن قمة المصالحة الثانية التي احتضنتها الرياض أسفرت عن اتفاق بين أضلع المثلث الذهبي على آلية لإدارة الخلاف بينها، لاحظوا أنه لم يكن مفرطا في تفاؤله فيعلن أن الخلاف انتهى وأن المصالحة صارت سيدة الموقف. والحق أن كل ما قيل وما جرى ليس ما كنت أنوي التركيز عليه هنا، بل الذي أثارني في حكاية المصالحة العربية العربية هو كيف أن اهتمام كبار القوم انصب على إعادة سوريا إلى الحضن الدافئ رغبة منهم في تطويق الخلاف الفلسطيني الفلسطيني واللبناني اللبناني، ونسوا أن هناك جزءا آخر من هذا العالم العربي يعاني هو الآخر من خلافات داخلية تدمي القلب وتحتاج هي الأخرى إلى مبادرات صلح.
هناك أيضا بقعة من هذا العالم العربي يطلق عليها اسم المغرب العربي هي الأخرى تنتظر من الأشقاء من يتدخل ويقيم صلحا بين مكوناتها. هذه الرقعة الجغرافية منضوية تحت تنظيم اتحاد المغرب العربي، لكنه تنظيم أصيب منذ أزيد من عشر سنوات بسكتة دماغية، ومع ذلك بقي حكام دول الاتحاد مصرين على الاحتفاظ بجثته فوق الأرض والتداول على رئاسته وهو في حالة موت إكلينيكي. ومع ذلك لم يتحرك الأشقاء في الشطر الآخر من العالم العربي لإنقاذ الاتحاد أو على الأقل إقناع إخوانهم بضرورة إكرام الجثة بدفنها.
ليس هذا فحسب، بل هناك ما هو أدهى وأمر من الاتحاد، هناك حرب صامتة تنخر أهم بلدين في المغرب العربي ولا أحد من العرب الكبار تدخل جديا لوضع حد لذلك. الحملات العدائية السياسية والإعلامية لا تتوقف بين الجزائر والمغرب وهي مستمرة من عشرات السنين ولم نر قادة العرب الكبار يتدخلون بحزم لوضع حد لذلك. الحدود البرية مغلقة بين الجزائر والمغرب من 15 سنة ولا شيء ينبئ بقرب فتحها لا غدا ولا بعد غد، ومع ذلك لا نجد من بين العرب من يخرج ليقول كلمة حق ويحاول رأب الصدع بين هاتين الدولتين الشقيقتين. وليت الأمر توقف عند الخلاف بين السياسيين أو حكام البلدين، بل دبت العداوة بين شعبي البلدين حتى صار الصراع بين السياسيين والحكام أرحم، فهؤلاء على الأقل لم يتوقفوا عن تبادل برقيات التهاني والتعازي مع ما في ذلك من نفاق وخبث.
والذي يطالع ما يرد في الصحف من مقالات وتعاليق يكتبها أبناء البلدين في حق بعضهما لا يملك إلا أن يشد شعره من هول ما فيها. وحتى لا أتيه بالقارئ الكريم الغريب عن هذا الصراع أنقل له صورة واحدة من الشعور المتبادل بين جزائريين ومغاربة في الفضاء الإعلامي، تخيلوا أن يصل الأمر بهذا الطرف أو ذاك أن يعتبر الآخر أخطر على بلده من خطر الصهاينة! هل هناك حقد أفظع من هذا؟ وهل هناك جهل أكبر من هذا؟ حتى الذين يحاولون تجاوز هذا الصراع، على قلّتهم، فإنهم يُتهمون بالعمالة والخيانة أو يُمنعون من الكلام والتعبير في أحسن الأحوال.
موريتانيا تحولت هي الأخرى منذ أشهر إلى خرقة منسية، الحرب على السلطة على أشدها بين الانقلابيين ودعاة الشرعية ولا أحد من كبار العرب تحرك ليقيم الصلح بين الموريتانيين وينقذ شعبا تتقاذفه حرب الزعامات من الاندثار أكثر مما هو مندثر.
السعي لإيقاف نزيف الحرب بين الأشقاء في فلسطين إنجاز عظيم ومطلوب، والسعي لإنقاذ سوريا من أخطبوط الملالي واجب قومي لمن يزال يؤمن بذلك، ثم إنقاذ لبنان من القبضة السورية شيء جميل. لكن هناك أيضا خطوات أخرى كثيرة وضرورية على علية القوم أن يبادروا بها قبل أن يعلنوا ويفرحوا ويرقصوا على أنغام المصالحة العربية. وإذا كانت الشعوب غير مهمة بالنسبة للحكام حتى لا نتيه في المتاهة العراقية، فهناك أنظمة عربية تحقد على بعضها البعض أكثر من تحاملها على إسرائيل. فهل ستشملها يوما ريح المصالحة التي هبت من غير موعد لتصبح موضة الموسم؟
المقال نشر يوم 18-03-2009