الموريتانيون على بعد خطوة من “المعجزة”
تسارعت الأحداث على الساحة السياسية الموريتانية في الأسبوعين الأخيرين بطريقة مدهشة وبدأت خيوط حل أزمة الرئاسة في البلد تتضح أكثر فأكثر بعد أن أثبتت الوساطة الدولية التي يقودها الرئيس السنغالي الحكيم عبد اللاي واد فعاليتها. ورغم أن شيطان التفاصيل حضر في آخر لحظة محاولا عرقلة اتفاق دكار، إلا أن توسع دائرة المرشحين المحتملين لانتخابات الرئاسة المرتقبة الشهر المقبل قد يؤثر هو الآخر على وتيرة حلحلة الأزمة الرئاسية.
ولعل أكبر مفارقة في هذا المشهد الموريتاني كانت المقاومة التي ظهر بها الرئيس المخلوع ولد الشيخ عبد الله، فهو الذي قيل إنه كان الحلقة الأضعف وإن وصوله إلى سدة الحكم لم يكن إلا بدعم العسكر بل حتى مروره وظهوره في الفترة السابقة كان غلطة سياسية وجب تصليحها، إلا أن (تعنته) وتمسكه بحقه في منصبه كان عاملا حاسما في تطور تداعيات الانقلاب عليه إلى الحراك الراهن. ولم يكن ولد الشيخ سيظهر بهذه القوة لولا تلك المقاومة الرائعة التي ظهرت بها المعارضة الموريتانية والرفض القوي لشرائح واسعة من الموريتانيين للحركة الانقلابية الأخيرة، إضافة إلى كثير من المواقف الإقليمية والدولية التي أضعفت شوكة قائد الانقلاب الجنرال محمد ولد عبد العزيز.
ثم جاء إعلان العقيد اعل ولد محمد فال نيته في الترشح للانتخابات المقبلة ليضفي على المشهد نقطة غموض جديدة. فقد التزم هذا (الانقلابي الديمقراطي) صمتا مريبا طيلة الأشهر التي أعقبت الانقلاب على الرئيس ولد الشيخ عبد الله وأيضا على المسار الديمقراطي الذي حرص العقيد على إنجاحه وتتويجه بإعلانه والتزامه بالانسحاب من الساحة السياسية مباشرة بعد انتخاب رئيس جديد بطريقة حرة وديمقراطية. قد يكون صمت العقيد فال تصرفا حكيما الغرض منه تجنيب سقوط موريتانيا في دوامة عنف ومواجهات لا نهاية لها، فهو يقول إنه فضل العمل والتحرك على عدة مستويات محلية ودولية لإصلاح ما أفسده الجنرال ولد عبد العزيز، ولعل عودته الآن وإعلان ترشحه كان تتويجا لمخطط كان يسير عليه منذ البداية. قد يكون خيار ولد محمد فال الأصلح للبلد في المرحلة الراهنة، فهو يعود الآن مطهّرا من الصبغ العسكري لأنه غادر المؤسسة وانسحب من كل دوائر الحكم رسميا، إلا أن تكوينه وشخصيته قد تجعله الصخرة التي تتحطم عليها أطماع الجنرال ولد عبد العزيز في الجلوس على كرسي الرئيس بطريقة ديمقراطية.
الرجلان (ولد عبد العزيز وولد محمد فال) عسكريان وينتميان إلى عائلة واحدة، مما جعل كثيرا من المتابعين يتوقعون حدوث شرخ واسع في القبيلة الواحدة حيث سيصطف جزء إلى جانب أحدهما والجزء الآخر وراء الثاني وهو انقسام من شأنه أن يخدم المعارضة خاصة إذا اتفقت على تقديم مرشح واحد. هذا طبعا إذا كان ترشح العقيد فال كما هو ظاهر وليس فصلا من مسرحية محكمة الإخراج، كما يشك الكثيرون. ومع ذلك فإن من حق الناخب الموريتاني أن يسمع قبل موعد الاقتراع من العقيد ولد محمد فال تفاصيل الدوافع التي جعلته يقرر العودة إلى السياسة من بابها الواسع بعد أن غادرها أيضا من الباب الواسع. هل هي فقط الرغبة في إنقاذ بلده من دوامة الانقلابات وعدم الاستقرار السياسي على اعتبار أنه الرجل الأصلح لهذه المرحلة مثلما كان بروزه قبل أربع سنوات ضروريا لتخليص موريتانيا من عهد انقلابي طال أمده؟ أم أنه صار كحال الحكام العرب الآخرين عاشقا لكرسي الحكم ومدمنا عليه بعد أن جربه وذاق حلاوته؟ أم أن عودته كانت تنفيذا لخطة محكمة وضعها منذ إطاحته بالرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع ستنتهي بإعلان فال رئيسا للجمهورية الموريتانية بطريقة شعبية ديمقراطية تنال تزكية الشعب والمجتمع الدولي؟ ستتضح خيوط اللعبة مع اقتراب موعد الانتخابات وسيكون الموقف الذي سيتخذه الجنرال ولد عبد العزيز لاحقاً ضوءا كافيا لإزالة جانب كبير من لغز الظهور المفاجئ للعقيد ولد محمد فال على الساحة.
كما أن عاملاً آخر قد يزيد الخيوط تشابكاً، ويتعلق الأمر بعودة رجل آخر لا يقل أهمية عن العقيد فال، ذلكم هو الرئيس الأسبق المخلوع معاوية ولد سيد أحمد الطايع. فقد بدأت أصوات موريتانية تدعوه إلى العودة إلى البلد وإعلان ترشحه للرئاسة. وإذا لم تكن هذه الدعوات بإيعاز منه فإنها قد تغريه جديا لاستعادة مجده الضائع ومواصلة (مشاريع الإصلاح) التي تحدث عنها غداة الإطاحة به. عودة ولد الطايع إذا تبلورت ستضيف عبئا جديدا على السباق الرئاسي، لكنها قد تكون مفيدة أيضا لوضع حد لحالة الاحتقان الدائمة في موريتانيا، وعندها سيكون الرئيس المقبل متمتعا بشرعية أكبر وسيكون أمام جميع أطياف الشعب الموريتاني الحق الكامل في اختيار رئيسهم بطريقة حرة. هذا إذا اعتبرنا أن انسحاب الرئيس ولد الشيخ عبد الله قرار نهائي، صاحبه مقتنع به.
علينا نحن العرب أن ننتظر موعد الانتخابات الموريتانية وتنصيب الرئيس الجديد لنضيف نقطة جديدة في سجل هذا البلد القاصي والمهمل، والذي أثبت لحد الآن أن فيه شعبا وطبقة سياسية أحسن وأفيد وأشجع بكثير من عرب الجمهوريات الديمقراطية الأخرى. فبينما تغوص بلدان عربية أكبر شأنا في دوامة التوريث والتمليك والحكم المؤبد، يخرج الموريتانيون من شرنقة الانقلابات ليقفوا رجلا واحدا ضد استمرار هذا النمط البائس من الحكم. يضع الله سره في أضعف خلقه!
لم ترهب الموريتانيين هذه المرة عصا العسكر ولا دباباته ولا حتى سجونه، بل خاضوا معركة مشرفة وأبدوا مقاومة مذهلة انتهت بإجبار الانقلابيين على الانسحاب وأعطت للرئيس المخلوع شرف الخروج محترما وجعلت حل الأزمة رهن توقيعه، وهو في نهاية المطاف خروج مشرف له.
يبقى الآن أن نأمل من الموريتانيين أن يخرجوا من شيطان تفاصيل اتفاق الوساطة الدولية وينطلقوا في سباق الرئاسة وينهوا الأمر بسلام، ليزدادوا كبراً في عيون إخوانهم ويضيفوا نقطة إيجابية في سجل الديمقراطية العربية، ويكونوا أيضا مثلا وحافزا لشعوب البلدان العربية الكبرى لعلها تتخلى عن وهمها وتشق لنفسها طريقا يخرجها من دوامة التوريث والأمر الواقع والديمقراطية المزيفة الواهية.
المقال نشر يوم: 10-06-2009