الوسيلة والغاية في حراك الجزائريين

محطات فارقة تركت بصمات على صفحات تاريخ الجزائر المستقلة، منها المبهج ومنها المحزن وكثير منها مزيج بينهما؛ لا يكاد المرء يرى في تلك المحطة أو هذه بريقا حتى يظهر له فيها شررٌ وقتامة. الثورة الزراعية، الثورة الصناعية، أحداث أكتوبر 1988 وحزمة الإصلاحات التي تلتها، الانقلاب على نتائج انتخابات 1991، المصالحة الوطنية وأخيرا حراك 22 فبراير 2019. لا شيء من كل هذا، ومن غيره كثير، أجمع حوله الجزائريون على كلمة واحدة وموقف موحّد. بل حتى استقلال الجزائر وجد له من يعتبره “نقمة” أو ربما “هدية مسمومة من ديغول”.
لن أتوقّف في هذا المقال إلا عند آخر المحطات، حراك 22 فبراير، بعد أن بدأت الوساوس تغزو أفئدة الناس والفتاوى تترا بشأنه من كل جانب. والحقيقة أنني شخصيا توصلت إلى رؤية تكاد تكون مكتملة بشأن هذا الحراك، رؤية بدأت تتجلى في لحظة من لحظات انقشاع ضباب التفاؤل قبل عدة أشهر. سأتحدث عن هذا بعد استعراض عدد من النقاط.
الحكام في العالم أجمع، وفي الجزائر ودول التخلف الأخرى، لا يكادون ينطقون بالحق إلا إذا كان فيه ما يدغدغ هواهم ومصالحهم. ولعل الكثير منا يتذكر كيف تحولت نظرة رئيس أركان الجيش السابق أحمد ڤايد صالح إلى فكرة الخروج إلى الشارع للإطاحة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة من مشروع تغرير إلى إنجاز شعبي عظيم وجبت مرافقته وحمايته (إلى حين!)، وكيف بدأنا نسمع أشخاصا كانوا يعبدون بوتفليقة وآله وصحبه (كما كانوا يعبدون من قبله) يهللون للحراك، وهؤلاء قد يكونون أفرادا عاديين ومحسوبين على أحزاب سياسية أو منتمين إلى جماعات مهنية أو جمعيات.
لذلك لا غرابة أن نسمع شخصا مثل عبد المجيد تبون يوزّع بركاته على الحراك ويؤكد أنه كان منقذا للجزائر من السقوط في الهاوية.
هل علينا أن نخلص بسرعة إلى أن هؤلاء منافقون وكذابون، وأن إشادتهم بالحراك لا تعدو أن تكون ضحكا على الأذقان؟ قد يكون هذا الحكم صحيحا، كما قد يكون كلام تبون وڤايد صالح والآخرين ممن هم على شاكلتهما كلاما صادقا. فمن كان يعتقد يوما أن عبد المجيد تبون قد يدخل قصر الرئاسة سيدا عليه لولا حراك 22 فبراير؟ ومن كان يتوقع أن يستجمع الجنرال ڤايد صالح شجاعته فينقلب على الرئيس بوتفليقة ويجرجر شقيقه سعيد والجنرال توفيق وباقي الشلة إلى السجن ويتحول إلى الآمر الناهي الأوحد لولا الحراك؟ نعم؛ الحراك لا يمكن إلا أن يعتبر مباركا وفأل خير على أمثال هؤلاء الذين تسلقوا على أكتاف الشعب لخلافة بوتفليقة. لقد ركبوا قطار الحراك ولم يكتفوا بالنزول في المحطة التي أرادوها هم، بل حاولوا ولا زالوا يحاولون إنزال كل الشعب معهم وتعطيل حركة القطار ومنعه من الوصول إلى آخر محطة.
ولعل هذا الذي تسبب في تعرض الحراك للتشويش وظهور الانشقاقات في صفوف جنوده، حتى ظهر من قرر الخروج أمام الناس لنعي الحراك أو على الأقل للتأكيد على أنه أدى ما عليه وعلى الجماهير الآن أن تقتنع بأنه لم يعد هنالك مجال للتفكير في الخروج مرة أخرى إلى الشارع؛ ليس بسبب “كورونا” ولكن لأن الحراك قد تبخر، وكل من يريد إحياءه إنما هو يطارد الأوهام.
عن نفسي، تحولت قبل أشهر إلى شبه مقتنع بنظرة سوداوية مسحت كل تلك الأحاسيس المتفائلة التي عادت إليّ فجأة مع تتالي جمعات الأشهر الأولى من 2019. صرت أحمل أفكارا أكثر “جرأة” من تلك القائلة بأن الحراك قد مات أو انتهى؛ بكل بساطة أصبحت أزداد قناعة أن الحراك لم يكن إلا “كذبة” أو لنقل “حلما جميلا” لم يعد يستأنس به إلا الذين لم يستفيقوا من سباتهم بعد.
نعم، كم هو محبِط أن تداعب المرء أشياء جميلة ثم يكتشف سريعا أنها مجرد رؤيا لا حظ لها في الواقع. تريدون تفسيرا مختصرا لما أقول؟ عبد العزيز بوتفليقة ظل جاثما على رقاب الجزائريين عقدين من الزمن وبقي مصرّا على ألّا يغادر الرئاسة إلى مقبرة العالية، لكن حكمة الله أرادت أن يفقد قدراته الحركية ويبقى متأرجحا بين الحياة والموت (ليكون للناس آية)، وهو وضع أحرج داعميه في المؤسسة العسكرية على الخصوص، خاصة بعد أن تمادى الوريث غير الشرعي في تنمره مخالفا بذلك الأعراف السائدة منذ الاستقلال. الوضع كان آيلا إلى التعفن ولا بد من مخرج يُبقي الأمور تحت السيطرة. وكان الحل أن يخرج الشعب إلى الشارع (لا يهمّ كثيرا أن يكون الخروج عفويا أو بإملاء) ويستمر التصعيد إلى حد يفقد فيه آل بوتفليقة السيطرة ويجد العسكر أنفسهم “مجبرين” على التدخل لاستعادة زمام المبادرة تحت عنوان “إنقاذ البلاد من العصابة”.
تسارعت الأحداث بعد ذلك وسارت كما أرادها (على العموم) أولو العزم الذين اجتهدوا في إدخال البهجة في نفوس الجزائريين وتخديرهم بجرعة “حماية الحراك ومرافقته”، بينما كانت نيتهم هي “الاحتماء بالحراك ومراقبته” إلى حين الانتهاء تماما من عقدة بوتفليقة والتحكم تماما في دفة الحكم كما يريدون هم وليس كما “يحلم” الشعب.
لا أريدكم أن تنفروا من هذه القراءة قبل أن تتأكدوا معي أن ما تحقق منذ بداية الحراك كان يصب (كله) في مصلحة المتسلطين على رقاب الشعب. قد يكون للشعب نصيب من الخير، لكنه لا يعدو أن يكون شيئا شبيها بما يعرف في حالات أخرى بالأضرار الجانبية التي لا بد لها أن تحدث.
سمعت قبل فترة أحدهم يقول إن الحراك حقق نتائج إيجابية كثيرة منها تعطيل العهدة الخامسة وإدخال الفاسدين في السجن. فعلا، لقد رحل بوتفليقة وصار أخيرا أويحيى وعدد من الأشرار الذين عبثوا لسنوات بمشاعر الشعب وراء القضبان، لكن هل يوجد في قصر المرادية اليوم رئيس اختاره الشعب بحرية وبغالبية الأصوات؟ وهل توقف الفساد السياسي والمالي بسجن أويحيى وسلال وطحكوت وحداد؟ ما معنى أن يطاح ببوتفليقة ويخلفه شخص أسوأ منه؟ وما جدوى سجن الجنرال توفيق وأويحيى وحداد وغول ولوح وباقي الشلة إذا كان الآلاف من أشباههم أحرارا وفي مناصب حساسة؟ لا، بل إن الآلة التي صنعت بوتفليقة وتلك التي تفرّخ الفاسدين من السياسيين وغيرهم مستمرة في عملها ومحمية في نفس الدهاليز.
لمن يذكر، فقد جاءت هجمات 11 سبتمبر 2001 في وقت مناسب لإنقاذ النظام وقتها من سقطة مدوية، مثلما يمكن القول إن “كورونا” حلت في فترة مناسبة تماما لمساعدة النظام على إتمام خطته ومنع الحراك من تحقيق غاياته. ولأننا نحن البشر لا نطلع على الغيب ولم نؤت من العلم إلا قليلا فلا بأس من تقديم تأويلات أخرى لما حدث فنعزي أنفسنا بالقول إن ما نعتبره عوائق ربما هي أيضا خير أراده الله بالجزائر لمنعها من السقوط في مجهول آخر، أو ربما لأن الصلاح والإصلاح قد يكون له أهله الذين لم يبلغوا الحلُم بعد.
أما الشيء الأكيد المؤكد الآن فهو أن الحديث عن “جزائر جديدة” وعن سقوط العصابة وعن دستور يحقق أحلام الجزائريين في مستقبل واعد، ليس إلا كذبا وافتراء واستهزاءً بذكاء الجزائريين. طريق النضال لا يزال طويلا وبدايته عدم تصديق الأكاذيب وألاعيب السحرة، وقبل هذا عدم السقوط في فخ العصابة الحاكمة من خلال التعامل بمصطلحاتهم بدل التفكير الجاد في حلول مبدعة ومتجددة لتجاوز كل العقبات ومحاولات الاستقطاب والتلاعب.