بعد خراب غزة

الخلافات العربية العربية انتهت، وعاد الود والصفاء إلى قلوب قادتنا الحكماء المجتمعين في قمة الكويت. هكذا بجرة لسان واحدة صفت النفوس وولى إبليس مدبرا لتحل مكانه ملائكة الطهر والحب والإخاء. جملة واحدة أو قل ثلاثا نطق بها الملك عبد الله بن عبد العزيز كانت كافية لتمسح سنوات من الخلاف وأسابيع من حرب كلامية وإعلامية قهرت المواطن العربي تماما كما قهره العدوان الإسرائيلي الوحشي على أهل غزة.
ألقى العاهل السعودي كلمته وقبل أن يلملم أوراقه قرر من قرر أن الانقسام العربي زال والنار التي اشتعلت إلى جانب نار إسرائيل قد خمدت وأن الذين كانوا يتنابزون ويتعاركون بينهم تاركين غزة وأهلها لوحوش يعبثون بها تحولوا وهم يستمعون إلى تلك الكلمات السحرية من خصوم إلى إخوة صافية قلوبهم. وحتى يصدق العرب أن المعجزة تحققت تناقلت الفضائيات صور القادة يشد بعضهم بعضا وجاء من يؤكد لنا أن تلك الابتسامات لم تكن مصطنعة ولا ظرفية، كما أنها لم تكن تحت أي تهديد أو ضغط. كانت فقط كلمة أو قرارا صادرا في خطاب غير مجدول سلفا وتحولت النفوس المتخاصمة فجأة سمنا على عسل ومن لم يصدق فهو جاهل.
لا، بل إن مصالحة الكويت التاريخية لم تقتصر على القادة العرب فقط، وإن لم تصدقوا فاقرأوا ما نقلته صحيفة سعودية عن مصدر سعودي. يقول المصدر إن “المصالحة التي أعلن عنها الملك عبد الله تشمل كل العرب دون استثناء ولا تقتصر على الدول والحكومات فقط”. ابشروا يا عرب، فإن الصلح قد عم بينكم وقد أصبحتم بنعمة الخطاب التاريخي إخوانا متحابين ليس في قلوبكم غل. تتساءلون، هل كنتم أعداء من قبل؟ نعم، وإن كنتم لا تعلمون، والآن لقد أصبحتم إخوانا وأنتم لا تعلمون. هناك طبعا دائما من يقرر مكانكم متى تصبحون أعداء فيما بينكم ومتى تتصالحون، حتى أعداؤكم لا تختارونهم أنتم، بل هناك من يفعل ذلك مكانكم، هناك حكامكم الذين اختاروكم شعوبا لهم يقررون كل شيء بدلا عنكم. وإياكم أن تسألوا لماذا وما هي مبررات الخيارات المفروضة عليكم. لا تسألوا لماذا انتظر قادتنا الأشاوس إعلان إسرائيل نهاية اغتصابها لأهل غزة والعرب أجمع ليجتمعوا ويعلنوا تصالحهم. لا تسألوهم لماذا أصروا على رفض كل اقتراح لعقد اجتماع طارئ يدرسون فيه كيفية الرد العملي ولو بأضعف الإيمان على العدوان الإسرائيلي ولماذا أثاروا حروبا هامشية بينهم أنست وشغلت كثيرا منا عما يتعرض له إخواننا في غزة، ولست متأكدا أن أهل غزة لا زالوا يعتبروننا إخوة لهم بعد كل الذي حصل. لا تسألوا حكامكم عن شيء مما يفعلونه ويقررونه، بل اصمتوا وامتثلوا لما يصدر عنهم وهللوا. إذا قرعوا طبول الحرب على إخوانهم الأعداء فزمجروا معهم وسخنوا الطبول، وإذا تصافحوا وتبادلوا القبلات والبسمات فكبروا وتعانقوا وتذكروا أنكم إخوة ودينكم يأمركم أن لا تَفرقوا.
من بين ما قاله الملك عبد الله في كلمته (إن خلافاتنا السياسية أدت إلى فرقتنا وانقسامنا وشتات أمرنا وكانت هذه الخلافات وما زالت عونا للعدو الإسرائيلي الغادر ولكل من يريد شق الصف العربي لتحقيق أهدافه الإقليمية على حساب وحدتنا وعزتنا وآمالنا. إننا قادة الأمة العربية مسؤولون جميعا عن الوهن الذي أصاب وحدة موقفنا وعن الضعف الذي هدد تضامننا، أقول هذا ولا أستثني أحداً منا). وعندما نستمر في خصامنا ونرفض أية مبادرة للم الشمل ولعن الشيطان في عز التقتيل الإسرائيلي لأبناء غزة، ماذا نسمي ذلك؟ الملك يعترف بنفسه أن من يفعل هذا إنما هو يمد يده للعدو لمساعدته على غدر إخوانه. كان زعماؤنا الملهمون يعتبرون أن هناك من نظرائهم العرب من هو أشد عداوة له من إسرائيل، وهذا ما ظهر للعالم وهو يرى كيف أن هجوم العرب (الزعماء) على بعضهم البعض كان أقسى من انتقاداتهم لإسرائيل، فتركوها تواصل مهمتها القذرة وانشغلوا بحرب الاستنزاف الداخلية. وعندما أكمل المعتدون اليهود اغتصابهم أو أجبروا على ذلك أمام صمود أبناء غزة، تفطن حكامنا المبجلون إلى أنهم في الأصل إخوة وأن عدوهم يوجد في مكان آخر.
الحرب الإسرائيلية على غزة ليست بعيدة، ولا بد أننا لا نزال نذكر أن من الأسباب الرئيسية التي شجعت إسرائيل على ارتكاب جريمتها الخلاف أو الشقاق الفلسطيني الفلسطيني بتشجيع مادي ومعنوي من باقي العرب، وبما أن الفلسطينيين عرب أيضا، ألم يكن حريا بقادتنا وهم يلتئمون في قمة المصالحة التاريخية أن يساهموا في عقد الصلح بين الإخوة الفلسطينيين الأعداء؟ أليست حماس وباقي فصائل المقاومة الأخرى في غزة من بني يعرب؟ كانت صور الفضائيات وإعلان الصلح سيكتمل لو أن قادة حماس حضروا هم أيضا إلى الكويت وتصافحوا مع إخوانهم في السلطة الوطنية، أم ليس من حق مشعل أن يطبع على خد محمود عباس قبلة كتلك التي تبادلها مرارا وتكرارا هذا الأخير مع العدو أولمرت ورفيقته تسيبي ليفني؟ أنا أعتقد أن مصالحة الكويت تبقى ناقصة ما دام عباس يتمنى كل الشر لإخوانه في حماس وفصائل المقاومة الأخرى. لكن للأسف لسنا نحن من يقرر أو يعرف أصول المصالحة، بل هناك من يفعل ذلك نيابة عنا. ولا حق لأحد في الكلام بعد ما قاله عراب المصالحة العربية في هذه الجملة (ومن هنا اسمحوا لي أن أعلن باسمنا جميعا أننا تجاوزنا مرحلة الخلاف وفتحنا باب الأخوة العربية والوحدة لكل العرب دون استثناء أو تحفظ وأننا سنواجه المستقبل بإذن الله نابذين خلافاتنا صفاً واحداً كالبنيان المرصوص).
وليس لنا أيضا أن نسأل قادتنا لماذا قررتم التصالح بعد أن قررت إسرائيل وقف عدوانها وبعد أن استشهد أزيد من 1500 فلسطيني وبعد أن هدمت قطعة غالية من أرض فلسطين والآتي أعظم. هل كانت المصالحة محرمة أو ممنوعة عندما كانت آلة الدمار تغشى قطاع غزة؟ أم أنكم كنتم تنتظرون توقف أصوات الطائرات والمدافع حتى يستمع الجميع إلى صدى قبلاتكم ويروا صور مصافحاتكم واضحة دون أن تحجبها سحب القنابل والصواريخ الهمجية؟
أما أنتم يا أهل غزة فأبشروا لأن غمرة المصالحة التاريخية لم تُنس قادتنا إخوانهم، فقد خصصوا لكم أموالا طائلة لإعادة إعمار ما خربته إسرائيل، وكل الأمل أن تصل هذه الأموال والمساعدات في أقرب وقت عبر معبر العزة والكرامة. ولشهدائكم قولوا إن الزعماء يبعثون لكم تحياتهم الأخوية الخالصة، أبلغوهم فقط بذلك ولا تستمعوا لردهم لأننا سمعناه قبلكم.
وإلى خلاف عربي آخر نتمنى لإعلان المصالحة وانتهاء الخلاف العربي العربي عمرا مديدا وصمودا لا يخر مع أول صيحة ديك. ولا تسألوا عن العقاب الذي حملته قمة العرب لزعماء الحرب في إسرائيل، فالأهم أننا تصالحنا وتعانقنا وأخذنا صورا تذكارية، فهذه أكبر هزيمة ألحقناها بإسرائيل في العصر الحديث وأثرها في نفوسهم سيكون أشد من أي قرار آخر بقطع العلاقات معها ومن أي تحرك جاد لمحاكمة مجرمي الحرب هناك ومن أي قرار بفتح المعابر والحدود لإنقاذ ما بقي من كرامة أهل غزة وأهم أيضا من أي قرار فلسطيني بالعودة إلى الشعب المقهور ليختار كما يحلو له من يحكمه لفترة ما بعد المصالحة العربية العربية.
المقال نشر يوم 21-01-2009