
تصريحات نور الدين آيت حمودة بشأن الأمير عبد القادر وهواري بومدين لا تزال محل مضاربات المعلقين وكل من هب ودبّ. وفي إطار محاولات السعي الحثيث لإخراج موضوع النقاش عن سياقه التاريخي استضافت قناة “السلام” الكاتب الصحفي سعد بوعقبة ليطرح قضية جثتي عميروش وسي الحواس من زاوية أخرى تكون نتيجتها الحتمية أن يعود نجل عميروش (نور الدين آيت حمودة) إلى التلفزيون ليقدم اعتذارا صادقا لهواري بومدين ويشكره على ما فعله برفات والده العقيد عميروش.
قبل الخوض في بعض تفاصيل النغمة الجديدة التي حملها بوعقبة ليحفظ لبومدين “قدسيته”، أذكّر أن آيت حمودة قال في حوار تلفزيوني مع قناة “الحياة” إن الأمير عبد القادر الجزائري لم يكن لينال تلك “القدسية” التي لازمته بعد موته لأنه كان أقرب إلى فرنسا الاستعمارية منها إلى قضية وطنه الجزائر التحررية. وتحدث أيضا عمّا فعله بومدين الذي كان رئيسا للجزائر من إخراج جثتي عقيدي ثورة التحرير سي الحواس وعميروش عام 1966 واحتجازهما داخل قبو مقر قيادة الدرك الوطني في العاصمة لنحو ربع قرن. ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن بومدين كان أيضا عقيدا في جيش التحرير، وأن المشرف على قبو الدرك الوطني لسنوات طويلة كان اسمه أحمد بن شريف، وهو أيضا كان حاصلا على لقب عقيد في جيش التحرير وكان في نفس الوقت منحدرا مع آخرين غيره من سلالة (الجيش الفرنسي الاستعماري) وهم المعروفون في أوساط الجزائريين باسم (ضباط أو ضباط صف فرنسا).
سعد بوعقبة (بدعم شديد من محاوره الذي كان يفترض فيه أن يطرح أسئلة مخالفة لما يحمله ضيفه من أفكار حتى يستفيد المشاهد ويكون للحوار معنى وقيمة مهنية) كشف منذ اللحظات الأولى للحوار عن ورقته الرئيسية التي جاء أو جيء به ليعرضها على الرأي العام. وجاء ذلك في صيغة طوق نجاة ألقي إلى نجل عميروش ليتراجع عن كلامه. وسبب تأكيدي على أن تلك كانت الرسالة الوحيدة التي حملها بوعقبة معه، هو تأكيده عليها وتكراره لها ثلاث مرات بصيغ تصاعدية؛ الأولى عندما قال: “لو يعرف آيت حمودة الحقيقة لكان له ربما موقف مغاير تماما من بومدين في هذه القضية”، والثانية كانت: “آيت حمودة، المفروض يشكر بومدين على أنه بذل جهدا في التعرف على مكان دفن والده”، والثالثة جاءت قبل دقائق من نهاية المقابلة قال فيها بوعقبة إنه “متأكد لو أنه (نور الدين آيت حمودة) يعرف أن بومدين هو الذي أخرج رفات أبيه كان يبكي دما” على توجيه مثل ذلك “الاتهام الفظيع” إلى بومدين عندما قال إنه سجن جثتي عميروش وسي الحواس في قبو الدرك الوطني.
بوعقبة حمل معه رواية (قيل إنها تخرج إلى العلن لأول مرة) عن سرّ إبقاء رفاتي عقيدي ثورة التحرير في القبو طيلة تلك المدة. يقول فيها إن نية بومدين هي أن يستخرج كل رفات رموز شهداء التحرير ويعيد دفنها في مقبرة العالية بالعاصمة، في البقعة التي تعرف الآن باسم “مربع الشهداء”. ويفسّر بوعقبة مبرّر بومدين لاتخاذ مثل تلك الخطوة بمحاولة هذا الأخير طمس سمعة بعض كبار مجاهدي ثورة التحرير الذي عبروا عن استنكارهم لاستيلاء بومدين على السلطة بقوة الانقلاب في مثل هذا الشهر من عام 1965، فأراد أن يرسخ في عقول الجزائريين أن من يستحق التكريم هم وحدهم الذين استشهدوا (وهو معهم بطبيعة الحال)، ذلك أن بومدين لم يكن شيئا مذكورا في قائمة الذين صنعوا وأداروا ثورة التحرير (المباركة والأصلية!!).
وتضيف رواية بوعقبة أن خطة طريق بومدين بدأت بجلب رفات الأمير عبد القادر من سوريا وأيضا بالتعرّف، بمساعدة قيّمة من جزائري كان ضمن أعوان الاستعمار حينها، على مكان دفن جثتي عميروش وسي الحواس (اللذين قُتلا في معركة ضد جيش الاحتلال)، لكن المخطط تعطّل عندما رفضت عائلة قائد ثورة التحرير في منطقة الأوراس بن بولعيد نقل جثمانه من قبره بقريته إلى العاصمة. حينها قرر بومدين إلغاء العملية والتستّر على مكان وجود جثتي عميروش وسي الحواس طيلة فترة حكمه، وهنا لا بد من التساؤل عن الفرق بين ما فعله الكولونيل بومدين (عندما أبقى الجثتين مهملتين في قبو الكولونيل أحمد بن شريف) وما فعله المحتل الذي فضّل التكتم على مكان دفن هذين العقيدين؟!
بوعقبة وكأنه يقول إن مسؤولية ما حصل يتحملها نجل مصطفى بن بولعيد الذي رفض الموافقة على نقل رفات والده إلى العاصمة، لأن بومدين لو اكتفى فقط بدفن جثتي عميروش وسي الحواس مع الأمير عبد القادر في مقبرة العالية لطالته موجة اتهامات بالجهوية والانحياز لمنطقة القبائل دون غيرها؛ لذلك قال -وفقا لرواية الشاهد بوعقبة دائما- “إذن ما ندفنهمش، نخليهم في مكانهم” (في القبو)، والأمير عبد القادر وحده سيتولى مواجهة خصوم بومدين! وتأمينا على كلام بوعقبة زاده المحاور بيتا بقوله “تفاديا للفتنة، أستاذ؟!”؛ ثم عاد المحاور مرة أخرى لتأكيد الرسالة التي نُظمت “الحصة الخاصة” من أجلها، عندما قال: “يمكن القول إذن أن سبب إبقاء جثتي عميروش وسي الحواس في القبو الدرك الوطني هو وأد الفتنة؟؟”.
أنا غائب عن الساحة الإعلامية الجزائرية جسديا منذ نحو عشرين عاما، وحاليا من خلال متابعاتي لنزرٍ قليل مما تحمله لنا وسائل الإعلام في غالبها أظل أتساءل عن السر الذي جعل الإعلام في الجزائر يتدنى إلى درجة يستحي زبانية إعلام الحزب الواحد طيلة الستينات والسبعينات ومعظم عقد الثمانينات من مضاهاتها. وكأن الصحفيين يتلقون لقاحات مضادة للعمل المهني في الجامعات وفي قاعات التحرير أو ربما في عيادات أخرى.
وبعيدا عن تلقين أي أحد دروسا في الإعلام والعمل الصحفي المحترف، أحاول هنا مناقشة ما جاء به بوعقبة من خلال تعليقات أو تساؤلات لعل آيت حمودة يقرأها قبل أن يخرج علينا تائبا مسبّحا بحمد بومدين. وكلامي في أصله موجّه إلى الشباب الذين لا يعرفون من بومدين وحقبته إلا ما يتلى عليهم من قبيل الوطني الشهم، والقائد الفذ، وأبو مجانية التعليم والطب المجاني، والقائمة طويلة. كنت أتوقع من بوعقبة وبدرجة أقل من محاوره أو منتج البرنامج أن يضيفوا تعليقا على رواية رفض نجل بن بولعيد أن يعاد دفن والده في مقبرة العالية، فيقولوا مثلا: “هل في سجل بومدين أحداث أخرى تفيد أنه يتراجع عن قرارات يصدرها؟ أو هل كان معروفا عنه أنه يسكت عن أحد يخالف رغباته؟”. أنا شخصيا متأكد تماما أنه لو كانت تلك رغبة بومدين فعلا لجعل نجل بن بولعيد يرضخ لها طوعا وكرها.
سؤال آخر كان حريا بنا أن نسمعه في تلك “الحصة الخاصة”، وهو -على ما أراه- سؤال بديهي كان سيصدر عن أي شخص يسمع كلام بوعقبة ولو كان مشاهدا عاديا لا علاقة له لا بالسياسة ولا بالإعلام. لنفترض جدلا أن تلك الرواية كانت صحيحة وأن إخراج رفات عميروش وسي الحواس كان بغرض دفنهما في العالية وليس لاحتجازهما في قبو الدرك الوطني، لماذا، بعد أن “أفشل” عبد الوهاب بن بولعيد مخطط مزار العالية، لم يأمر بومدين بتسليم جثتي عميروش وسي الحواس إلى عائلتيهما لإعادة دفنهما في مكان أليق من قبو الدرك الوطني، وبما أن مخطط بومدين لم يكن معروفا إلا على مستوى دائرة ضيقة، فإنه كان قادرا على أن يخطب في الناس ليخبرهم أنه تمكن من اكتشاف قبري سي الحواس وعميروش، وأنه قرر إعادة رفاتهما إلى ذويهما ليدفنا بكرامة. وسيكون هذا العمل ذلك دون شك قيمة مضافة إلى قائمة إنجازاته الوطنية. حينها لن يهرع نور الدين آيت حمودة وحده لتقبيل جبهة بومدين، بل سيقف معه الجزائريون كافة وسيخرس خصومه لفترة من الزمن. بومدين لم يفعل هذا لأنه ربما كان يعتقد أن ذلك سيكون عملا من الفتنة أيضا؟!
ولنفرض أن بومدين (لأي سبب من الأسباب) لم يكن يريد أن يعيد رفات عميروش وسي الحواس إلى ذويهما، ألم يكن أكرم للميتين أن يعودا إلى قبريهما المجهولين، حيث دفنهما المستعمر، من أن يبقيا في قبو للدرك (ربما كان يعجّ بالقوارض)، بينما قلوب عائلتيهما تشتعل حرقة لمعرفة المكان الذي وضعهما المستعمر فيه؟
وآخر تعليق أو تساؤل كان حريا بنا أن نسمعه في “الحصة الخاصة”، وهو من شأنه أن يحطم كل تلك الرواية العرجاء، هو أن يحاول بوعقبة أو أحد العاملين على تبليغ الرسالة التمحيص في العمل الذي ارتكبه بومدين، خاصة أن الدافع منه كان واضحا وجليا وهو أن بومدين كان قد فعل ما فعل من أجل إخراس قادة الثورة الأحياء وسحب البساط من تحت أرجلهم حتى يخلو له عرش المجد والحكم. أليس ما فعله بومدين هو عين الفتنة، عندما أراد ضرب رجال سبقوه إلى العمل الكفاحي (الأصيل!) برجال آخرين كانوا رفقاءهم في الغالب، واستغلال الشهداء لتحقيق مكاسب سلطوية؟
نعم، التاريخ يبقى من اختصاص المؤرخين، لكن لعامة الناس وقبلهم صفوف الإعلاميين أن يستمروا في طرح الأسئلة البسيطة والمحرجة حتى لا يطمئن الدساسون إلى أن كل ما يهرفون به سيصدقه الناس.