تبًّا للفضائيات والإنترنت.. وسحقاً لأوباما وأمريكا!

الفضائيات والإنترنت والعالم قرية صغيرة، كلها مصطلحات تمنيت من قلبي لو أن مخترعيها ماتوا قبل أن يرجمونا بها. لعلها هذه ليست أمنيتي وحدي بل أمنية كل الجزائريين والعرب الآخرين معهم. تخيلوا عالمنا بدون شبكة الإنترنت وبدون الجزيرة والعربية والبي بي سي والسي أن أن، ألن يكون ذلك أرحم على قلوبنا وعقولنا وصحتنا؟ كان حالنا الأسبوع الماضي أشبه بالمبتهج لرؤية السراب حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد واقعه المر أمامه. لم نكن أقل ابتهاجا من الشعب الأمريكي وهو يصنع التاريخ بيديه، تابعنا حملة الانتخابات الرئاسية في مراحلها التمهيدية ثم تحمّسنا لها وهي تستعر بين المرشح الجمهوري العجوز والديمقراطي الذي خرج كالمارد، حبسنا أنفاسنا، ربما أكثر من الأمريكيين أنفسهم وتمنينا أن يفوز أوباما ثم تبادلنا التهاني بفوزه الباهر، ثم أطفأنا شاشاتنا والتفت كل منا إلى الآخر ولا أكمل ماذا جرى بعد ذلك.
وإمعانا في الحب الذي يكنه لأبناء شعبه اختار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الأسبوع الحاسم في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ليعلن عن تعديل الدستور حتى يتمكن من الاستمرار على كرسي الرئاسة دون أن يجد نفسه ملزما بالتخلي عن منصبه لشخص آخر لأن سيادة الدستور يرى أن الرئيس لا يمكنه أن يستمر أكثر من فترتين متتاليتين في الحكم. بينما كان العالم يحلم بقدوم رئيس جديد شاب ورمز للتحدي لرئاسة أكبر دولة، فضل أهل الحكم في الجزائر أن يصفعوا أبناء بلدهم ليستفيقوا من غفوتهم ويدركوا أنهم في بلد لا مكان فيه للأحلام مهما كانت مشروعة. دعوا أمريكا تحلم وتختار طريق التغيير وعودوا أنتم إلى بيوتكم وانتظروا ما يملى عليكم ثم صفقوا للقرارات الحكيمة التي تختارها لكم قياداتكم الرشيدة.
بوش الابن قاد أمريكا والعالم إلى الهاوية وكان أن انتفض الأمريكيون وقرروا التخلص من إرثه الثقيل باختيار رئيس رفع شعار التغيير ووعد به. أما بوتفليقة فقد اعترف أمام الملأ أنه اختار للجزائر وللجزائريين طريقا لا يوصل إلى الجنة، ولأنه قرر أن يكمل الطريق المعاكس لطريق الجنة فقد أعلن أنه باق في الحكم حتى يقرر هو الرحيل أو يقضي الله أمرا كان مفعولا. أما الشعب فيكفيه أنه حلم وصوّت في أحلامه لصالح أوباما.
يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر تزداد شماتة أهل الحكم في الجزائر بشعب بلدهم، زمرة من البشر تقرر ما شاءت مكان الشعب. هي التي قررت أن تكون الجزائر اشتراكية ثم غيرت رأيها فجعلت منها بلدا مفتوحا، وهي التي تقرر من يكون رئيسا للبلدية ومن يكون رئيسا للدولة ومن يكون عضوا في البرلمان ومن يكون في بيته ومن يكون منفيا ومن يكون مقبورا، وكل ذلك يكون باسم الشعب صاحب القرار والسيادة. سكت الشعب ثم انتفض وحاول أن يختار من يحكمه بحرية فلم ينفع من ذلك شيء. وكان آخر قرار مدوّ له مقاطعة الانتخابات البرلمانية، لكن الزمرة رأت أن نسبة 15 أو 20% من المشاركة كافية لتنصيب برلمان يمثل مختلف أطياف السلطة وهو نفس البرلمان الذي سيصوت بالإجماع وباسم الشعب الجزائري على التعديل الدستوري الذي يمدد فترة الحكم لبوتفليقة على أمل أن يمدد لهم هذا الأخير فترة استفادتهم من ريع البلد. أحد الأصدقاء المراقبين لتطورات الساحة الجزائرية قال لي عندما عاد أحمد أويحيى ليستلم رئاسة الحكومة من رفيقه بلخادم، إن هذا النظام بفعله هذا بلغ أقصى حدود التحدي، وكأنه يقول للشعب روحوا تـ…وا! وقد وجدت هذا أحسن وصف وأبلغ تفسير لما يجري. رئيس حكومة لعله الأكثر بغضا من طرف الشعب يعود ليواصل إنجازاته التي وصفها بعظمة لسانه بأنها (قذرة)، ورئيس يقول إنه كان يسير بالبلد إلى الجحيم، لكنه يبقى رئيسا رغم أنف الجميع.
الأمريكيون لقنوا العالم أجمع درسا في الانتخابات الأخيرة وأثبتوا أنهم ينتمون فعلا إلى أمة عظيمة جديرة بالاحترام والتقدير. وسواء سلك أوباما بعد ذلك نهج التغيير فعلا أم استمر على نهج أسلافه، فإن ذلك لن ينقص من قيمة شعبه شيئا، لأنه عرف كيف يقف أمام المسار البوشي الجهنمي ويعلن أنه يريد أن يجرب طريقا آخر ربما يوصله إلى الجنة. ومثل هذا الخيار طبعا ليس متاحا للجزائريين ولا لغيرهم من شعوب الجمهوريات الديمقراطية. الجزائريون لم ينضجوا بعد وهم لا يعرفون ماذا يليق بهم وما لا يليق، لذلك فإن الزمرة الحاكمة لا تزال، مشكورة، ساهرة على الشعب وعلى اختيار ما يصلح له بدلا عنه. فهي عندما ترى أن الرئيس الفلاني لا يصلح تستبدل رئيسا آخر به وعندما ترى أن هذا الدستور معرقل لخطة الحكم لا تتورع في تغييره وإن كان الجميع يعلم أنه دستور شكلي ولم يكن يوما يحظى بأي احترام أو التزام. حكامنا لا يلتزمون بالدستور ولا بأي نص قانوني إذا رأوا أنه لا يوافقهم، وإذا تعارضت المصالح فإن النظام والرجال يعلون على الدستور ولسان حالهم يقول نحن وضعناك ونحن القادرون على إجهاضك ووضع نص آخر بدلا منك، ولا يهم بعد ذلك أن يقسم الرئيس على المصحف أن يحترم الدستور ويمجده، فهذا كله كلام فارغ.
هل بوسع الجزائري أن يفعل شيئا أمام هذا التسلط والاحتقار المفروضين عليه؟ الدستور يضمن له حرية التعبير ويصونها، وهذا معناه أن بمقدوره إسماع صوته الرافض في التلفزيون الحكومي وفي الشارع وفي كل مكان. وبما أن الدستور شيء والواقع شيء آخر فإن كاميرا التلفزيون وميكروفونات الإذاعات الوطنية والمحلية والجهوية وصفحات الصحف الحكومية لن توفر له حقه الدستوري في التعبير عن رأيه إلا إذا كان مطبلا ومزمرا. وقد تابعنا نشرات الأخبار التلفزيونية منذ إعلان بوتفليقة عن قرار تعديل الدستور فلم نسمع صوتا واحدا يقول إن ما فعله الرئيس لا يليق أو لا يليق ببلد أكثر من ثلثيه شباب وهؤلاء لهم الحق على الأقل أن يختاروا لهم رئيسا يفهمهم ويفهمونه. بل الأدهى من ذلك أن التلفزيون الحكومي (لا وجود لتلفزيون آخر غيره) خصص برنامجا حواريا أسبوعيا لمواكبة تبعات الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكان عنوان البرنامج: أوباما.. الأمل والتغيير. وبما أن التلفزيون الجزائري يعيش في غيبوبة منذ سنوات فلن يبقى لنا إلا أن نأمل يوما متابعة برنامج في محطة أجنبية تحدثنا عن: الجزائر.. الأمل في التغيير. كل هذا ويجد البعض مجالا للاستغراب كيف تناقش قضايا جزائرية في وسائل إعلام أجنبية.
ماذا يبقى للجزائريين أن يفعلوا في حرمانهم من حقهم الدستوري في التعبير؟ أن يخرجوا إلى الشارع ويكسروا كل شيء؟ سيقولون إن هذا تصرف غير حضاري وقوات مكافحة الشغب ستكون لهم بالمرصاد. أن يخرجوا في مظاهرات سلمية؟ القانون صار يمنع تنظيم مظاهرات في الشوارع تحت طائلة قانون الطوارئ الساري منذ عقد ونصف. أن يؤسسوا أحزابا سياسية يعبرون من خلالها عن رأيهم ويعملوا من أجل تحقيق التغيير بالطرق السلمية والدستورية؟ الدستور يعترف بحق كل جزائري في تأسيس حزب أو جمعية سياسية وفق ضوابط واضحة، لكن الرئيس بوتفليقة قرر منذ مجيئه سنة 1999 أن لا يمنح الاعتماد لأي حزب جديد وأن يكمم أفواه الأحزاب الموجودة إلا إذا أرادت التزمير والتطبيل. أن يؤسسوا تلفزيونات أو إذاعات خاصة يتنفسون فيها؟ هذا أيضا حق دستوري قرر بوتفليقة أن يجعله محرما على شعبه لأن الوضع لا يسمح بذلك. أن ينتظروا تغييرا يفرض على السلطة من الخارج، على شاكلة برنامج بوش المحرر للعالم المضطهد؟ لا أحد صار يصدق هذا الكلام بعد الحلف المقدس الذي أبرمه الغرب مع الحكام العرب.
بقي للجزائريين شيء واحد يفعلونه، أن يحلموا بالتغيير وأن يصوتوا افتراضيا ويشاركوا في استطلاعات الرأي التي تنظمها وسائل الإعلام الأجنبية، ولا شك أنهم سيفرحون عندما يرون أن الذي اختاروه حاكما لأمريكا مثلا كان هو الفائز، لكنهم سرعان ما يستفيقون مصدومين عندما يجدون أوباما يحكم شعبا غيرهم وأنهم محكومون من طرف زمرة جاثمة فوق أعنقاهم وأعناق آبائهم وأجدادهم من قبلهم.
ألا يحق لنا بعد كل هذا أن نتمنى لو أن الثورة الفضائية لم تكن وأن الإنترنت والمحطات التلفزيونية والإذاعية الفضائية لم توجد؟ على الأقل سنبقى مصدقين لما يقوله حكامنا من أنهم الأفضل وأن حكمهم هو قمة الديمقراطية وأننا أفضل شعب في الأرض وبلدنا صار بلدا يحسده العالم على استقراره وعلى تقدمه ورخائه!
المقال نشر يوم 11-11-2008