تفاهم المسلم مع المسلم حرام ولا عزاء من الرئيس لشعبه!
انهارت وثيقة التفاهم بين السنة والشيعة في لبنان في وقت قياسي بعد أن أثبت فريق سني خيّر أن هذه الوثيقة إنما هي هرطقة إعلامية هدفها توجيه ضربة قاضية للسنة. كلام كثير وانتقادات حازمة وُجِّهت ضد وثيقة الاتفاق جعلتني أتخيل تشابهاً كبيرا بين هذه المبادرة وبين اتفاقية 17 مايو 1983 بين حكومة الرئيس أمين الجميل والإسرائيليين التي سقطت قبل ترسيمها.
نعم، أي تفاهم بين السنة والشيعة في لبنان لا بد أن يسقط لأنه يشبه التفاهم بين اللبنانيين والإسرائيليين، لا فرق بين سني وشيعي في لبنان وبين لبناني وإسرائيلي، أو لعل الاتفاق اللبناني اللبناني أخطر إذا اعتبرنا أن التفاهم الأخير سقط قبل أن يجف حبره بينما استغرق الأمر مع اتفاقية 17 مايو عشرة أشهر. وحتى تكون مهزلة اتفاق التفاهم السني الشيعي مكتملة اختار مخرجو المسرحية أن تكون حرب إسقاطها سنية سنية أو سلفية سلفية، لا بل لا بد أن تكون أشد إثارة لأنهم اختاروا لها بطلين من نفس العائلة، الشيخ حسن (الشهال) يوقّع والشيخ داعي الإسلام (الشهال) يوقِعها على رؤوس موقِّعيها.
اللبنانيون، مهما قيل عنهم، لا يمكن أن يخرجوا عن الإجماع الكوميدي العربي. يقولون إنهم رواد الديمقراطية في العالم العربي، لكنهم يصرون على أن تكون دائما ديمقراطية عربية طائفية. حتى صراعاتهم وخلافاتهم الداخلية يجب أن تكون ديمقراطية، فهم مثلا باتفاقهم السني السلفي الشيعي يحاولون أن يثبتوا للعالم أن المسلمين بطوائفهم لا يمكنهم أن يتعايشوا بسلام ووئام إلا إذا اجتمعوا وتشاوروا واتفقوا ووقعوا اتفاقا وأشهدوا العالم على ذلك بمشاهد تبويس واحتضان تثير الشفقة. القاعدة في لبنان العربي الديمقراطي أن السني عدو الشيعي ولا أحد يقترب من الآخر أو يحاول أن يحفظ كرامته أو يدافع عنه إذا لم يكن هناك اتفاق مكتوب ومشهّر به في كل أرجاء العالم. إذا رأى لبناني لبنانيا آخر يهان أو يعتدى عليه، لا بد أن يسأل قبل التدخل عن هوية المتقاتلين فإذا كانا سنيا ومسيحيا مثلا تدخل لإنهاء الخلاف، وإذا كانا سنيين أو شيعيين تدخل كذلك للإصلاح بينهما، لكن إذا كانا سنيا وشيعيا سألهما إن كان هناك اتفاق تفاهم بينهما، وإذا جاءه الجواب بالنفي اعتذر منهما على تدخله وواصل سيره دون أن يعاود الالتفات إليهما. كذلك الأمر إذا رأى لبناني شيعي طرفا داخليا أو خارجيا (والخارجي سواء كان عربيا أو حتى إسرائيليا) يعتدي على لبناني سني لم يلتفت إليه، تماما مثلما يجب على اللبناني السني أن يفعل إذا صادف طرفا داخليا أو خارجيا يعتدي على أخيه اللبناني الشيعي. نعم، لا بد من وثيقة رسمية تتيح للأخ أن يدافع عن أخيه أو أن يمتنع عن إيذائه في بلد ديمقراطي بامتياز مثل لبنان.
أما الوجه الآخر من العملة الديمقراطية اللبنانية فهي أن أي محاولة للتفاهم والتحاور والاحترام المتبادل بين اللبناني السني وأخيه الشيعي مصيرها الإسقاط، وقد قرأنا وسمعنا الشيخ السني السلفي الشهال (الأول) يتحدث عن ضغوط شديدة واجهها من جماعة الشيخ السني السلفي الشهال (الثاني) اضطرته وجماعته إلى تجميد الاتفاق. وحجة الشيخ الشهال (الثاني) أن الشيعة أرادوا أن يلعبوا بالسنة ويفرقوا بينهم بهذا الاتفاق، وإذا كان هناك أي اتفاق بين الطرفين لا بد أن يكون بمباركة من شيخ السنة في لبنان الشيخ سعد الحريري ولا بد أن يستوفي أهم شرط لإبرام هذا الاتفاق وهو أن يكون أنف حزب الله (الممثل الرئيسي والغالب لشيعة لبنان) ممرغا في التراب، أما وأنه لا يزال صاحب المبادرة وقادرا على السيطرة على مفاتيح اللعبة فما ينفعش! وهنا لا أحد يعلم إن كان الشيخ الشهال (الثاني) يريد أو يأمل فعلا أن يرى حزب الله ساقطا على الأرض أم أنه يقول إن الاتفاق مع الشيعة مستحيل على اعتبار أن سقوط حزب الله وانتكاسه ليس قريبا حتى لا نقول مستحيلا في واقع الحال الذي نعيشه.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فإن من حق أحدنا أن يسأل لماذا يرفض فريق من السنيين اللبنانيين التفاهم مع الشيعيين اللبنانيين، بينما لا أحد يقف أو يتنحنح في وجه الزيارة المباركة التي بادر بها الشيخ السني سعد الحريري إلى مدينة النجف حيث التقى المرجع الديني الشيعي الأعلى آية الله العظمى علي السيستاني. الحريري تحدث بمناسبة الزيارة عن الاستثمارات العربية في العراق ودعا إلى ضرورة توحيد كلمة المسلمين والتخلص من عوامل التشتت والفرقة. اتفاق التفاهم السني الشيعي في لبنان جاء مباشرة بعد الزيارة، وبما أن المقصود منه لم يكن توحيد كلمة المسلمين ولا التخلص من عوامل التشتت والفرقة فلا بد أن يسارع المحسوبون على الحريري للضغط على موقعيه وتجميده.
وليت لبنان وحده انفرد بحالته السنية الشيعية، بل الأمر صار متشابها في كثير من بلاد العرب، لكن هذه المرة بين السنة والسنة، حيث لا يزال الإخوة السنيون في السلطة الفلسطينية وفتح يرفضون الجلوس للتفاهم مع إخوانهم السنيين في حماس والطرفان يتحاربان ويحرضان الأطراف الخارجية على بعضهما البعض، والغريب أنهما يعترفان أن الحوار ضروري بينهما ولا يريان مانعا أن يجتمعا (في الخارج وبرعاية خارجية) ليتصافحا ويتفقا، لكن المشكل هو أنهما انتهيا إلى الاحتكام إلى طرف لا يقل عنهما وهَناً وهو نفسه في أمس الحاجة إلى من يصلح بينه وبين إخوته المسلمين في الطرف الآخر لينتهي اقتتال زاد طين البلد السعيد بلة. في المقابل لا يمانع قادة السلطة الوطنية في الالتقاء برأس الفتنة في المنطقة أمام عدسات المصورين ولا يرى الطرف الآخر حرجا في الالتقاء والتفاهم مع العدو المشترك من تحت الطاولة وكل واحد يجمع النقاط لصالحه ولا يهم إن كان يعين الخصم لتسجيل نقاط ضد أخيه في الله والوطن! فالتفاهم مع العدو مشروع عند المسلمين بينما يبقى التحاور مع الأخ من المحرمات الموبقات التي تهدم الأعمال هدما.
وفي بلد آخر منافس للبنان في ديمقراطيته المتميزة شن إرهابيون عدة هجومات انتحارية وقتلوا من قتلوا من إخوانهم في الدين والوطن ثم أعلنوها هدنة من جانب واحد إلى حين. محنة أخرى أصابت الجزائريين وذكّرتهم أنهم لا يزالون بعيدين عن شاطئ السلم، ولا أقول أكثر حتى لا أتهَم بإفساد المساعي الحميدة لفريق ناشط من المثقفين الجزائريين الذين يسعون إلى تتويج فخامة رئيسهم بجائزة نوبل للسلام، وجائزة نوبل التي يسعى هؤلاء النشطاء لجعلها من نصيب فخامة الرئيس بوتفليقة ليست تقليدا عن الجائزة المعروفة، بل هي نفسها الجائزة العالمية التي حاز عليها نلسون مانديلا وياسر عرفات والدلاي لاما وآل غور ومحمد البرادعي ومحمد يونس وغورباتشوف وروزفلت. ولعل الرئيس بوتفليقة نفسه لم يشأ أن يفسد على نفسه حظوظ الفوز بجائزة السلام العالمية عندما قرّر أن يلزم المكان الذي هو فيه ولا يتنقل لمعاينة الأماكن التي تكالب عليها الإرهابيون في الأيام الأخيرة وأزهقت فيها أرواح عشرات الجزائريين الأبرياء. التلفزيون الجزائري الوحيد والأوحد لا يزال يتلو على الناس برقيات التعاطف الموجهة لفخامة الرئيس من طرف رؤساء العالم ومنظماته، وبعد يومين أو ثلاثة وقف مذيع نشرة الأخبار ليخبرنا أن فخامة السيد الرئيس بعث برقيات تعازٍ… أخيرا قلنا إن فخامته تذكر الجزائريين وعائلات ضحايا الاعتداءات الإرهابية في يسر والبويرة وتيزي وزو وسكيكدة وغيرها، لكن الظن خاب، بعد أن أخبرنا المذيع أن برقية التعازي الأولى كانت موجهة إلى الرئيس الصيني في وفاة الوزير الأول الصيني الأسبق والبرقية الثانية كانت إلى الرئيس السنغالي تعزيه في وفاة إمام الطريقة التيجانية والبرقية الثالثة كانت إلى نائب رئيس زامبيا في وفاة رئيس هذا البلد الإفريقي والبرقية الرابعة حملت تعزية من فخامته إلى رئيس السلطة الفلسطينية في وفاة الشاعر محمود درويش والخامسة إلى الملك الإسباني خوان كارلوس والسادسة إلى الوزير الأول الإسباني خوزي لويس ثاباتيرو على وفاة 153 راكبا في الحادث المرعب لتحطم طائرة إسبانية في مطار مدريد.
قد يتساءل متسائل وهل من مهام فخامات الرؤساء تقديم التعازي لشعوبهم أو لعائلات الضحايا من أبناء شعوبهم؟ لعله ليس تقليدا عند الرؤساء العرب الذين لا يعترفون بشعوبهم، أما عند الغربيين فالأمر مختلف تماما، ونسأل لهم الهداية. فقد رأينا كيف أن الرئيس الفرنسي أعلن مباشرة بعد حادث مقتل عشرة من جنود البعثة العسكرية الفرنسية في أفغانستان أنه سيسافر إلى أفغانستان وهناك التقى الجنود والضباط الفرنسيين وواساهم، ورأينا أيضا كيف أن لويس ثاباتيرو قطع إجازته ليقف على هول حادث الطائرة الإسبانية في مطار مدريد. تخيلوا كيف أنّ شعوبنا لا يهتم بها من نُصبوا على رؤوسها، ليس فقط في الضراء. ونبقى مع فخامة الرئيس بوتفليقة الذي سافر إلى بكين لحضور افتتاح الألعاب الأولمبية مثله مثل باقي كبار قادة العالم وبعض صغارهم، لكن الفرق الذي ميز فخامته عن نظرائه بوش وساركوزي وميركل وآخرين هو أن هؤلاء جميعهم هبوا واقفين لتقديم تحية حارة لرياضييهم خلال حفل الاستعراض، بعضهم حمل أيضا علم بلده ولوّح به بعزة وكرامة، أما رئيسنا فقد فضل البقاء جالسا لكنه لم يحرم نفسه من التصفيق، ومثله فعل رئيس أفغانستان المستورد حامد كرزاي!
المقال نشر يوم 25-08-2008