مقالات

ثقافة العنصرية والكراهية

الرئيس تبون طلب من الحكومة إعداد “مشروع قانون يجرم كل مظاهر العنصرية والجهوية وخطاب الكراهية في البلاد”، وقد سارع رئيس الحكومة بعدها إلى تكليف وزير العدل وعدد من الإدارات المختصة بالعمل من أجل تنفيذ الفكرة. ووفقا لبيان صادر عن الحكومة فإن عبد العزيز جراد حدد الهدف من القانون المزمع إصداره، ويتعلق الأمر بتحديد “مسؤوليات كل مواطن وكل مجموعة اجتماعية أمام الواجب المقدس المرتبط باحترام التماسك الاجتماعي وقيم الوحدة والأخوة التي عززت تلاحم الأمة عبر تاريخها“.

ما فهمته من هذه الخطوة التي أريد لها أن تكون على نفس أهمية التعديل الدستوري المرتقب هو أن “الأمة” مهددة في وحدتها بسبب انتشار العنصرية والجهوية والكراهية بين أبناء الجزائر، غير أنني تساءلت عن سبب اللجوء إلى إعداد مشروع قانون بهذا الشكل الاستعجالي والتهويلي وكأن الدستور والقوانين السارية الآن خالية من تدابير تجرم هذه المظاهر.

ومع ذلك فلنسلم جدلا أن كل النصوص القانونية السارية في الجزائر منذ الاستقلال إلى ما قبل عهد “تبون الثاني” لم تنتبه إلى هذا الخلل، وأن القانون المرتقب صدر، فهل سنستبشر بعهد جديد ينزع ما في صدور الجزائريين من أحقاد وأدران عنصرية وجهوية؟ هل سيتمكن القانون الجديد من فرض هيمنته على الحاقدين والعنصريين والجهويين؟ وهل ستمحى من تلافيف أمخاخ الجزائريين عبارات من قبيل: الزواوة أو الزواف أو الأعراب أو وليد البلاد؟ وهل سيطمئن سكان منطقة وادي مزاب مثلا إلى أنهم لن يتعرضوا بعد سنوات من الآن إلى موجة عنف دامية يتفرج عليها باقي الجزائريين وهم يرون بشرا مثلهم يقتلون وتحرق أملاكهم ويروعون تارة باسم الدين وطورا باسم قومية أو عرقية زائفة؟

أولا، علينا أن نعترف أن الجهوية والعنصرية والكراهية بين الجزائريين ليست وليدة عهد “تبون الثاني” ولا جاءت محمولة على أكتاف متظاهري الحراك، بل هي ممارسات لازمت الجزائريين منذ سنوات الاستقلال الأولى وقد كانت تتلقى دعما أو تغذية من أعلى مستويات هرم السلطة تحت غطاءات متعددة، والمساحة هنا لا تكفي لسرد التفاصيل ولا لكشف زوايا الظاهرة التي يتعين على علماء الاجتماع الاهتمام بها وتقديمها للجزائريين في قالب علمي محايد. وحينها فقط سيتأكد كل من يسعى لإعداد هذا القانون أن تلك المظاهر البئيسة لم تكن لتبلغ الحد الذي وصلت إليه الآن لولا أنها نشأت وترعرعت “تحت الرعاية السامية” لمسؤولي وإطارات الدولة من مختلف المشارب والإيديولوجيات، وأنها كانت ثقافة يتعلمها الناس في مختلف مراحل أعمارهم.

العنصرية والجهوية والكراهية كانت سلاحا حرصت السلطات العمومية على استعماله لضمان بقائها وللاستمرار في الحفاظ على الجزائريين متفرقين متباغضين متعادين لأسباب واهية إذا ما تفطنوا إليها استيقنوا أنهم كانوا على ضلالة وأنهم كانوا لعبة بين أيدي الشياطين الملاعين. العنصرية والكراهية والجهوية نراها تمشي على رجلين في كل مكان، في مؤسسات الدولة، في الجامعات، في البنوك، في أقسام الشرطة وفي كل مكان. الكثير من ضحايا هذه اللعبة القذرة لا يدركون أنهم يقترفون إثما، بل عادة ما يزين لهم الشياطين أعمالهم فيحسبونها بطولات وسلوكيات وطنية خالصة. ولتتأكدوا بأنفسكم من صحة ما أقول، اسألوا أنفسكم كم مرة التقيتم مسؤولين في إطار العمل أو خلال البحث عن عمل فطرحوا عليكم سؤالا من قبيل: “من أي جهة أنت؟”، وعادة ما تكون الخطوة التالية على قدر الجواب. كم مرة نسقط في فخ لعن جهة كاملة من الوطن أو عنصر عرقي بعينه لا لسبب إلا لأنهم علمونا ذلك أو لأننا كنا ضحية شخص واحد من تلك الجهة أو ذلك العرق، بل حتى عندما نكون ضحايا فإن ذلك عادة ما يكون انطلاقا من نفس السبب.

لن أكون متشائما أو متوجسا إزاء أي قانون موجه لمكافحة العنصرية والجهوية والكراهية بين الجزائريين، لكنني أرى من واجبي هنا أن أنبه إلى أن مثل هذه المظاهر الكريهة المتجذرة في نفوس كثير (أو قليل) من الجزائريين على مر العقود لا يمكن محوها أو إزالتها بقانون أو أية عقوبة مهما بلغ مداها. إذا أردنا أن تزول هذه السلوكيات الأثيمة من عقول الجزائريين ونفسياتهم فإن أول خطوة هي أن نحاربها بثورة فكرية وعقلية مستنيرة منذ الصفوف التعليمية الأولى يفهم فيها الناس أنهم بشر خلقهم الله مختلفين في ألسنتهم وألوانهم لحكمة لا يعرفها إلا هو. عندما يفهم الجزائريون أن لا أحد منهم خلق باختيار منه أبيضا أو أسمرا أو أسودا أو منتميا لعرق بعينه، حينها لن يجد أي أحد مبررا ليقول إنه أفضل من غيره أو إنه يكره ذلك أو ذاك لأنه ليس من جهته ولا من عرقه، بل إذا تيقن الناس بهذه الحكمة سيستحون من تكرار كلمات من قبيل: “أنا أفتخر بكوني من هذا العرق أو من تلك المنطقة”، لأن الانتماء لم يكن يوما عنصرا اختياريا. وبعدها سينتبه العالم إلى أن الافتخار سيكون فقط مقتصرا على ميادين العلم والأخلاق والعمل.

عندما نصل إلى هذا الحد من الفهم والقناعة، سيكتشف السياسيون أن قوانينهم لا مبرر لها، وحتى إذا وجدت فستكون فقط للتوجيه وليس للردع وتسليط العقوبات. لكن علينا أن ننتبه إلى أن إحداث تغيير في هذا الخصوص لن يكون بنظرة انفرادية وحصرية مثلما تراه الحكومة الآن، بل هي ثقافة عامة تشمل التغيير في كافة المجالات لأن اللوحة الفنية لن تكون أبدا جميلة ومحل إعجاب إذا شابها عيب واحد ولو كان في حجم ذبابة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى