حراك الصحفيين
كلام كثير قيل عن الندوة الصحفية التي عقدها نور الدين بدوي بصفته الوزير الأول، وقد أجمعت التعليقات على ضعف مستوى أداء بدوي وكيف أن أسئلة الصحفيين كانت في واد وأجوبته في واد آخر. عدد معتبر من التعليقات التي قرأتها وسمعتها قالت إن أسئلة الصحفيين كانت “في الصميم”، وأن الوزير الأول حاول التملص والمراوغة.
حثتني هذه التعليقات على البحث عن التسجيل الكامل للندوة الصحفية وتشجعت لقضاء أكثر من 90 دقيقة متابعا مجريات هذا الحدث. استمعت إلى الأسئلة وإلى الأجوبة جميعها، واستغربت كيف أن قدراتي التحليلية انهارت إلى درجة أصبحت فيها عاجزا عن الخروج بنفس النتائج التي خرج بها كثير من المحللين والمعلقين.
أنا هنا إذن أعترف بعجزي عن مواكبة الركب، لكني أستسمحكم بكتابة هذه السطور حتى لا أبخس أنانيتي التي اجتهدت وبحثت عن تسجيل المؤتمر الصحفي واستمعت إليه، وأعد القارئ أن ما أكتبه لن يكون مشابها لما قيل وكتب في معظمه، ولا ضير أن يقال عني أنني كنت أنا أيضا في واد والسياق العام في واد آخر.
نعرف جميعا أن هذه الندوة الصحفية تأتي في ظرف تشهد فيه الجزائر انتفاضة شعبية ضد السلطة والنظام الحاكم بكافة رموزه، ولحدّ علمي فإن نور الدين بدوي هو من الناس المرتبطين بهذا النظام جملة وتفصيلا. الشعب في الشارع يقول لبدوي ولغيره من أبناء النظام وآبائه: “ارحلوا جميعا”، لكن الصحفيين فضلوا أن يجلسوا أمام هذا الوزير الأول لا ليقولوا له إن “هذا الحراك الشعبي الذي تباركه وتشيد به أنت ورسائل بوتفليقة يقول لك ولبوتفليقة: ارحلوا لأننا لا نجد لكم أي دور في جزائر المستقبل”.
أسئلة الصحفيين، التي قيل إنها كانت محرجة وفي الصميم، كانت قد انخرطت في اللعبة وانساقت مع التيار العام للسلطة، فكانت الأسئلة في جزئها الغالب من قبيل: “كيف تتعاملون مع الحراك؟ متى ستشكلون الحكومة؟ مع من ستتحاورون؟ كيف ستكون تركيبة حكومتكم؟”، وأسئلة أخرى عن الندوة الوطنية الموعودة وعن تركيبتها وبرنامج عملها ودور الحكومة في إنجاحها. أسئلة لو عُرضت على طبيب نفسي لتحليلها لقال إنها تكرس بل وتزيد من حالة الانفصام التي يعيشها بدوي والسلطة الحاكمة في هذا الظرف. أسئلة شجعت الوزير الأول على الترديد أن تأجيل الانتخابات الرئاسية كانت بطلب من الشعب وأن بوتفليقة استمع إلى الشعب ولبّى طلبه (ولم يقف أي صحفي ليصحح له هذا الخطأ)، بل ذهب إلى حد الترويج بأن الشعب والسلطة صارا يسيران في نفس الطريق وفي نفس الاتجاه.
وحتى لا نبخس أحدا حقه، لا بد لي من استثناء سؤال واحد مباشر طرحته صحفية “الشروق” سميرة بلعمري عندما ذكرت بدوي أنه كان من قبل وزيرا للداخلية في الحكومة السابقة وسألته “كيف تقنعون الشارع أنكم غير مسؤولين عن هذا الماضي؟”. سؤال أراه تقريبا الوحيد الذي كان “في الصميم”، وقد سارع بدوي إلى تفاديه رغم ما اعتقدت (من خلال قول هذا الأخير “من بعد نرجع ليك”، دون أن يفعل) أنه إلحاح من الصحفية على الاستماع إلى إجابة عنه. لكني هنا أقول للصحفية إنك أنت التي جنيت على نفسك، ولو كنت سيئ النية لقلت لك إنك طرحت السؤال من أجل السؤال ولم تكوني حقا تريدين إجابة عنه. كيف ذلك؟ طرحت أول سؤال، ثم طرحت السؤال “المحرج”، لكنك قطعته بعودتك إلى السؤال الأول، وهنا أعطيت فرصة لنور الدين بدوي للهروب إلى غير رجعة. مع أن هذا السؤال الأول، الذي كان يدور حول خطة الحكومة من أجل ترميم الثقة المفقودة بين الشعب والسلطة، لم يكن ضروريا بل خارج الموضوع الذي يشغل الرأي العام.
وهنا لا بد لي من استرجاع أشياء تعلمتها في عالم الصحافة قبل ثلاثين عاما، مفادها أن الصحفي إذا أراد جوابا مباشرا على سؤاله فعليه أن يطرحه بصيغة مباشرة ويفضَّل أن لا يطرح معه أي سؤال آخر. وإذا تهرب المسؤول عن الإجابة فعلى الصحفي أن يعيد صياغته بطريقة مختلفة ويطرحه كسؤال تال إذا كان في حوار خاص، أما إذا كان في مؤتمر صحفي فالتضامن المهني يقضي بأن يعيد الصحفي الذي يأتي بعده نفس السؤال بعبارات أخرى حتى يصبح المسؤول مجبرا على الرد عليه أو أن يرفض ذلك صراحة.
لست هنا لأعطي دروسا للصحفيين، لكن بما أنني غُصت في مسألة المؤتمر الصحفي الذي عقده الوزير الأول، فإنني أسمح لنفسي مرة أخرى بالرد على سؤال افتراضي مفاده: كيف للصحفيين الذين دعموا الحراك الشعبي وخرجوا في تجمعات وساروا أيضا إلى جانب المواطنين في الشوارع أن يدفعوا هذا الحراك المبارك خطوة إلى الأمام ويسجلوا نقطة تحسب في ميزان حسناتهم؟ الجواب قد يكون افتراضيا هو الآخر ولعله “في واد آخر” أيضا، لكني سأقوله. المتوقع من الإعلامي الذي يريد أن يسير بنفس إيقاع الشعب لتحقيق نفس الهدف أن يقاطع أي مؤتمر صحفي يعقده ممثلون عن النظام الحاكم حتى يفهموا أن الشعب (والصحفيون منه) لا يريد أن يستمع إلى خزعبلات لا تقدم ولا تضيف شيئا جديدا، لأن هناك كلاما واحدا فقط يمكن أن تقوله السلطة للشعب في مثل هذا الظرف، وهو أن تعلن استجابتها الصادقة لمطلب الشارع وذلك بإعلان رحيلها، وحتى هذا لا يحتاج إلى مؤتمر صحفي، بل تكفي رسالة أو بيان تبثه وكالة الأنباء الرسمية، وبعدها تنتهي حكاية وتبدأ أخرى، ولكل حادث حديث.