حطاب والبارا.. ضيفان مميزان أم مجرمان في سجن سري؟

تداولت صحف محلية قبل أيام أخبارا تفيد أن القضاء الجزائري قرر السكوت عن محاكمة اثنين من مؤسسي الجماعات الإسلامية المسلحة في البلد رغم وجودهما المفترض بين أيدي السلطات الرسمية. ويتعلق الأمر بقيادي بارز في الجماعة السلفية للدعوة والقتال، العسكري السابق عماري صايفي (المعروف أيضا بلقب عبد الرزاق البارا) وحسان حطاب (أبو حمزة) الأمير السابق لنفس الجماعة التي صارت تحمل اسم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
الرجلان متابعان في قضايا إرهاب عديدة وقد صدرت في حقهما أحكام غيابية قاسية، لكن منذ أن صارا بين أيدي السلطات صار القضاء يتفادى الجهر باسميهما عندما يتعلق الأمر بمحاكمات هما متورطان فيها. وقد استغل محامو (الإرهابيين) المتورطين معهما هذا السكوت للمطالبة بتأجيل البت في مصير موكليهم إلى حين تقديم (الأميرين) أمام القضاء في محاكمة علنية.
وكانت السلطات الجزائرية قد أعلنت أنها استلمت عماري صايفي في 27 أكتوبر 2004 من السلطات الليبية التي استلمته بدورها من حركة انفصالية تشادية تدعى الحركة من أجل الديمقراطية والعدل كانت قد قبضت عليه في مارس من نفس السنة على الحدود الجزائرية التشادية وقد (استضافته) عدة أشهر بغرض مساومته مع السلطات الجزائرية دون جدوى حتى تدخلت السلطات الليبية في إطار (مساع حميدة) لم يُفصح عن تفاصيل صفقتها. وقبل يومين تحدثت صحيفة محلية عن محاكمة ورد فيها اسم عبد الرزاق البارا متهما، إلا أن هيئة المحكمة أغفلت اسمه وهي تنادي على المتهمين، وقد فعلت نفس الشيء قبل أيام قليلة مع حسان حطاب، وهو ما فسرته الصحيفة على أنه قرار من السلطات الجزائرية بتوقيف متابعة القياديين (الإرهابيين) أمام القضاء. وقد تناقلت وسائل الإعلام المحلية عن مسؤولين جزائريين خبر تسليم أمير الجماعة السلفية للدعوة والقتال نفسه إلى السلطات الرسمية في سبتمبر 2007 رفقة اثنين من مساعديه، ومنذ ذلك التاريخ صار الجميع يتفادى الحديث عن مصير واحد من أخطر المتابعين في قضايا الإرهاب في الجزائر.
ولعل أغرب ما أحاط بهذا الرجل كانت تصريحات أحد القضاة عندما سُئل لماذا لا يمثل حطاب أمام المحكمة في قضايا هو متهم رئيسي فيها، حيث كان رده إن حطاب ليس موجودا في أي سجن وأن المحكمة لا تزال تعتبره في حالة فرار وستكتفي بمحاكمته غيابيا، وهو نفس الكلام الذي نُقل عن مدير السجون في وزارة العدل الذي أكد أن حطاب لا يوجد في أي سجن من السجون الجزائرية. وقبل ذلك نقلت الصحف عن وزير الداخلية الجزائري يزيد زرهوني قوله إن حسان حطاب سيحال إلى القضاء للمحاكمة، عندما تنتهي مصالح الأمن من التحقيق معه في تهم الإرهاب المنسوبة إليه، مضيفا أن ملف حطاب لم يصل بعد إلى العدالة لأنه ما زال في مرحلة التحقيقات الأولية على مستوى مصالح الأمن التي تتهمه بالتورط في عدة قضايا (إرهابية). هذا الكلام قيل قبل أكثر من عام، ولا أحد يعلم إن كانت التحقيقات الأمنية قد انتهت معه أم لا، بينما القضاء يصر على أنه لا يعرف أصلا إن كان الرجل قد سلم نفسه وهو بذلك مستمر في اعتباره في حالة فرار.
الجزائر تشدد دائما أمام مواطنيها وأمام الهيئات الدولية على أنها دولة قانون، والقانون يقتضي في حالة هذين القياديين (الإرهابيين)، على الأقل، أن يمثلا أمام المحكمة ويردا على التهم العديدة والخطيرة الموجهة إليهما. وهناك من يفسر استمرار السلطات الجزائرية في التستر على حالتي الرجلين بوجود اتفاق بين الطرفين على عدم متابعتهما أمام القضاء وتمكينهما من الاستفادة من قانون المصالحة الوطنية. إلا أن دولة القانون تقضي أن يُحرم الرجلان من هذا الحق، أولا لأن القانون نفسه يفرض على المتهمين بالقتل ووضع المتفجرات في أماكن عمومية المثول أمام القضاء أولا، وثانيا لأن آجال هذا القانون انقضت قبل فترة طويلة من إعلان حطاب تسليم نفسه ولأن الثاني قُبض عليه ولم يسلم نفسه طواعية.
ومع ذلك فلا أحد (لا في الداخل ولا في الخارج) بإمكانه أن يجبر السلطات الجزائرية، المستقلة في قرارها، على الاستمرار في التستر على حالتي صايفي وحطاب آخرين غيرهما، فهي إن أرادت أن تخرق القانون من أجل العفو عنهما وعن غيرهما بإمكانها ذلك ولن تكون المرة الأولى التي تفعل ذلك، وإذا أرادت أن تفرج عنهما دون متابعة وتمحو كل الجرائم التي اقترفوها (أو المفترض أن يكونوا اقترفوها) فهي أيضا حرة في ذلك ولن تكون سابقة على الجزائريين أن يروا رؤوسا (إرهابية) كبيرة تمشي في الأسواق معهم وتأكل الطعام. بل لن يكون ما قد يرونه أغرب من لقطة رأوا فيها مؤسس جماعة إرهابية يسير في جنازة واحد من كبار المسؤولين العسكريين على مكافحة الإرهاب ويترحم على روحه الطاهرة أيضا. هذا هو الوئام الجزائري في أبهى حلله.
أما أن تبقى حالة الغموض والمضاربة مستمرة حول مسائل من صميم اهتمامات الجزائريين فهذا هو غير المقبول. ثم إن حالة السكوت عن مصير حطاب وصايفي وغيرهما من شأنه أن يدفع المراقبين إلى إطالة ألسنتهم وتفسير ذلك كما يشاؤون ولا أحد يلومهم في ذلك، وقد يصل ذلك إلى اعتبار الرجلين تعرضا لتصفية جسدية، مع أن ذلك من شأنه أن يتعارض مع ما قيل من أن رجلا مثل حسان حطاب، الذي قال فيه الرئيس بوتفليقة في سنوات حكمه الأولى كلاما لم يعجب أعداء الإرهاب، كان يقيم مفاوضات متواصلة مع السلطات وكان قد استفاد قبل تسليم نفسه من سكن خاص وسيارة مرسيدس وهواتف خاصة وربما أيضا من زوجة وراتب مجز. وهذا الاهتمام الراقي برجل متابع أمام القضاء بتهم تستحق الإعدام أو السجن المؤبد دليل على أن قرارا فوقيا اتخذ خارج الإطار القانوني لمكافأة الرجل على أفعال لا يعرفها كل الناس. وهنا يجدر التأكيد على حق الرأي العام (الجزائري على الأقل) في معرفة تفاصيل قضايا هي من صميم الأزمة التي عصفت بماضيه القريب وحاضره أيضا. فإذا كان الرئيس أو أحد غيره يريد العفو عن حطاب أو حتى عن من هو أخطر من حطاب فليس عليه أن يلجأ إلى العادة السرية لحكام العالم الثالث في حل قضايا وطنية ومصيرية. وهو يعلم أنه أقدر على فعل ذلك والحصول على تزكية وطنية مثلما حصل على تزكية قانوني الوئام المدني والمصالحة الوطنية ومثلما حصل على تعديل للدستور في ظروف قياسية.
ولعل البعض يحلو له تفسير بقاء هذا الغموض حول مصير حطاب ورفيقه صايفي وآخرين بوجود خلاف في أعلى هرم السلطة حولهم، وأعلى هرم السلطة يعني طبعا الرئيس والذين يملكون حق تقرير مصير ومستقبل الجزائر معه أو قبله. مع أن هذا الكلام صار عسير الهضم على أغلب الناس بعد أن تبين بالدليل والبرهان أن حكايات الخلافات والصراع في أعلى هرم السلطة صارت مثل حكايات الغول والعنقاء، وأن كل خلاف أو سوء فهم لا يعدو أن يتجاوز ما يعرفه الأزواج عادة بينهم من خلافات يومية تنتهي في غالب الأحوال بالوئام والقبلات.
ولا يذهب بنا الخيال أبعد من ذلك حتى لا نفتح الباب أمام أصحاب نظريات المؤامرة الذين سيقولون لنا إن إخفاء حطاب ورفيقه وآخرين لسنوات في دولة القانون معناه أن الجزائر صارت في مستوى دولة القانون الأكبر في العالم التي أسست سجنا خارج كل القوانين وأقامت سجونا سرية في البحار والجبال وعلى تراب دول أجنبية ولا أحد استطاع أن يجبرها على التخلي عن ذلك ولا حتى قضاؤها المستقل. هذا الكلام طبعا غير مفيد لأنه سيفتح الباب أيضا أمام شريحة من الجزائريين خفت صوتها منذ أشهر طويلة وقد كانت تطالب بمعرفة مصير أبنائها المختطفين وتتهم السلطات بوضعهم في سجون وأقبية سرية.
المقال نشر يوم 24-12-2008