حمروش ابن النظام
“تنازلات” آل بوتفليقة، على ما فيها من سذاجة واستفزاز، تؤكد أن العصابة أدركت أن مآلها إلى الرحيل. الشعب يريده رحيلا عاجلا وآل بوتفليقة وصحبهم منهمكون في البحث عن خيط أمل لتأجيله، وهذا ما بدأ يشكّل بوادر أزمة قد تكبح وتيرة الحراك وربما تحريفه بخبث عن مساره.
عصابة السلطة الحاكمة تحاول إقناع ذوي النوايا الحسنة في الداخل والخارج بخطورة تلاشي بوتفليقة من منصبه قبل أن “يضمن” تسليم المفاتيح لخليفة يختاره الشعب عبر صناديق الاقتراع، بينما الحراك الشعبي حريص من جهته على تصعيد الضغط في الشارع دون الشروع في الحديث عن الخطوات المقترحة لتأمين البلد عند رحيل بوتفليقة وباقي الشلة وفق الآجال الدستورية القائمة، أي مع حلول الثامن والعشرين من شهر أبريل 2019. وبين العصابة والحراك أطراف (سياسية في الغالب) تحاول التموقع وضمان مقعد لها في الخريطة السياسية للجمهورية الجديدة، وبغض النظر عن صدق ونزاهة جزء من هؤلاء السياسيين فإن الحذر الشعبي يبقى ضروريا حتى لا تسقط “ثورة الابتسامة” (الاسم أعجبني) في فخ الناقمين والانتهازيين.
قرار الحراك الشعبي عدم السماح لأي طرف بتقديم نفسه ممثلا أو قائدا له، رغم محاولات هؤلاء وهؤلاء، يبقى قرارا صائبا في نظري. ليس فقط حتى لا تتعرض الثورة للاختراق أو للإجهاض، بل أيضا حتى يحقق الشعب شرطا يحفظ له كرامته ويسجل له موقفا في التاريخ وهو أن لا يمنح لآل بوتفليقة أي حظ في وضع بصمتهم على خريطة الجزائر الجديدة، فهذا شرف لا يستحقونه أبدا بعد كل ما فعلوه. الموقف وفق هذه القراءة قد يبدو غامضا والمترددون قد يجدون في هذا عذرا لتبرير مخاوف السقوط في حالة عسر هضم متبوعة بإمساك حاد. هذا الرأي لا يتفق معه الذين يرون أن الحل أبسط من هذا وطريقه معروف: تسلم رئيس مجلس الأمة السلطة والشروع في التحضير لانتخابات رئاسية حقيقية أو تعيين مجلس رئاسي يتولى تسيير المرحلة الانتقالية.
قد يراني البعض متطرفا، لكني حريص على أن تظل الجزائر الجديدة -التي يتمناها الأحرار- في مأمن من أن تدنسها بصمات أشخاص لم يتوانوا يوما عن إهانة الجزائريين في أعز ما يملكون (كرامتهم وحريتهم)، وأعتقد أن رئيس مجلس الأمة الحالي عبد القادر بن صالح من أبرزهم. وأكاد أسمع أناسا يتمتمون إن هذا أمر مخالف للدستور والأجدر لنا أن نجد لنا حلا دستوريا، وردّي لن يكون مختلفا عما كتبته في ديسمبر الماضي من أن الدستور الجدير بالاحترام من طرف الشعب هو الدستور الذي يضعه الشعب بنفسه ويحترمه الحكام، لكن في حالة الجزائر لا الدستور من وضع الشعب ولا حتى الحكام كلفوا أنفسهم عناء احترام ما فرضوه على الشعب مفصلا على مقاسهم. وآخر ما ردوا به عندما سئلوا لماذا قرر آل بوتفليقة ما قرروا من تأجيل الانتخابات خارج إطار الدستور كان قولهم إن القانون والدستور لا يعلوان فوق إرادة الشعب، وهذا كلام منطقي على أهل الحراك أن يعتبروه القاعدة القانونية الناسخة لما قبلها.
الجزائريون، في غالبيتهم الغالبة، يريدون أن يباشروا مرحلة انتقالية بنفس السرعة التي يريد آل بوتفليقة أن يفرضوا عليهم حكومتهم الانتقالية وندوتهم الجامعة، وفي نفس الوقت يرفضون أن تكون عصابة الحكم شريكة بأي حال من الأحوال لا في تزكية هذه المرحلة ولا في وضع أسسها ومن باب أولى في تسييرها ولا حتى تيسيرها. كيف يمكن تحقيق ذلك؟ سأحاول تقديم مقترح أظن أنه صالح ومفيد لكل الأطراف، بما فيها للقلة العاقلة في دائرة اتخاذ القرار.
تتردد حاليا في مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام أسماء لشخصيات تراها أطياف من الحراك أنها جديرة وصالحة لإدارة المرحلة الانتقالية، من أمثال أحمد بن بيتور ومصطفى بوشاشي. لكني أسمح لنفسي أن أقترح اسما آخر أعتقد أنه بالإمكان أن يحظى بتوافق لا يستهان به لتحقيق الغاية. صحيح أن هذا الرجل يصرّ دائما على التأكيد بأنه ابن النظام ومعروف بانحناءاته المتكررة للرياح التي تهب عليه من نفس النظام، لكني لا أزال أجد له ما يمكن أن يشفع له ليكون مرشحا جديا للتكفل بالمهمة التي أراد بوتفليقة أن يستحوذ عليها لنفسه وأن تكون آخر أعماله قبل أن يتلاشى من المشهد. الرجل اسمه مولود حمروش، ولمن لا يعرفه من شباب الجزائر أقول إنه كان رئيسا للحكومة الجزائرية من سبتمبر 1989 إلى يونيو 1991، وحكومته كانت معروفة في حينها بحكومة الإصلاحات. الإصلاحات التي أعقبت ربيع “أكتوبر 88” التي لبست خلالها الجزائر واحدة من أزهى حللها التحررية، اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا، وكان الرئيس وقتها الشاذلي بن جديد. وقتها كان الجزائريون أحرارا حدّ “التطرف”، وكثير من مظالم التفرقة والعنصرية بين الجزائريين بدأت تتلاشى والشباب حصلوا على قدر من الاحترام وتشجعوا لاتخاذ مبادرات كان من شأنها أن تبعث الجزائر من جديد لولا أن “التطرف” زاد عن حدّه فاتحا المجال لأزلام الدولة العميقة من أجل التدخل لغلق قوس الحرية وإعادة الجزائر إلى أتون التناطح الذي لم يستفد منه إلا الفاسدون والمفسدون.
مولود حمروش لم يكن ملاكا ولم تكن كل أفعاله إيجابية، لكنه كان بشرا يصيب ويخطئ وحسناته كانت تفوق السيئات. ولهذا فإن اقتراحي بتقديمه لتولي المرحلة الانتقالية لم يكن فقط من منطلق تجربته (الإيجابية عموما على قصر عمرها)، بل لعدد من الاعتبارات سأوجزها في التالي:
* حمروش ابن النظام، وتقديمه للراغبين في “الاستجابة لمطالب الشعب” من شأنه أن يشجّعهم على الإسراع في التنفيذ وتسليمه مقاليد تسيير المرحلة الانتقالية. وقد قال لي أحد الأصدقاء المطلعين على كثير من أسرار حمروش إن بين هذا الأخير وبين قائد أركان الجيش الجنرال أحمد قايد صالح علاقة ودّ وتناغم.
* حمروش ابن النظام، وهو يعرف جيدا (بحكم تجربته الطويلة داخل دهاليز الحكم) كيف يضع الآليات الفعالة لإزالة هذا النظام أو على الأقل لصدّه عن الإساءة للشعب، إلى حين إتمام المرحلة الانتقالية بسلام.
* حمروش ابن النظام، لكنه أيضا أثبت خلال فترة حكمه أنه أقرب إلى الاستماع للشعب وأوسع صدرا من غيره.
* حمروش ابن النظام، وهذا الذي جعله يصرح في الكثير من المناسبات أنه لن يتقدم لتولي أي منصب قيادي إلا إذا حصل عليه توافق لدى صانعي القرار. وهنا أنقل، للتاريخ، كلاما سمعته يوما من “صانع الرؤساء” كشف خلاله أن أصحاب القرار توصلوا إلى قائمة نهائية من اسمين لتقديم أحدهما لخلافة زروال في انتخابات 1999. أحدهما عبد العزيز بوتفليقة والثاني مولود حمروش، وقد رسا الاختيار على بوتفليقة لأن القوم كانوا يخشون من حمروش أن ينتقم منهم بسبب إبعادهم له عام 1991، بينما ضمن لهم بوتفليقة خروجا آمنا. وقد كان أيضا ضمن القائمة الأولية الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
* حمروش ابن النظام، وهو يملك كثيرا من مواصفات رجل الدولة، واختياره لتسيير المرحلة الانتقالية سيقدم إلى الجزائريين وإلى العالم أجمع رسالة مفادها أن عجلة التغيير تتحرك بصورة جادة وجدية، والخصوم لن يجدوا فيها أي ريح للمغامرة وإثارة الشكوك.
* حمروش ابن النظام المهمش (وهو ليس وحده)، يقول عنه الذي يعرفونه إن السبب الذي يجعل صناع القرار يفرون منه هو إصراره على أن يتولى مقاليد السلطة لوحده ولن يكون لا بيدقا ولا خادما للذين يعينونه.
* حمروش ابن النظام، انتظر طويلا أن يرن هاتفه ليقال له حان دورك لتولي الحكم. لكن صناع القرار لم يتصلوا به لأن بوتفليقة صعد وأخذ السلّم معه، وأعتقد أن هذه فرصة يقدمها له الشعب ليحقق له حلما قديما ويمنحه فرصة لإصلاح ما أفسدته العصابة وإعادة القطار إلى السكة بضمانات جادة وشفافة.
* وأخيرا أكمل بأن حمروش ابن النظام، وتقديمه لأخذ زمام السلطة من بوتفليقة سيحقق له ثأرا شخصيا تاريخيا (حتى وإن كان لا يريده)، كما أنه بلغ من العمر مرحلة لا تسمح له أن يؤجج في نفسه طمع الاستيلاء على السلطة. ولعل الكثير من الذين يعرفونه يلومونه أو لا يفهمون سرّ بقائه صامتا رغم الغليان الذي تعيشه الجزائر في أيامنا هذه، ولهؤلاء أقول إن حمروش ابن النظام، وسكوته ليس إلا وفاء لعقيدة لا يفهمها إلا هو وقليل من المحيطين به. وربما آن للشعب أن يعالجه من هذا “الوسواس” بأن يتصل به ويقول له إن “صناع القرار” الحقيقيين يدعونك اليوم لتحمل مسؤولية تاريخية تختم بها مشوارك السياسي المبتور. وهذا أيضا من شأنه أن يفسح المجال للأسماء الجادة التي يقترحها الحراك الآن أن تحضر نفسها لتولي المسؤولية ليس لمرحلة انتقالية ما داموا قادرين على العطاء، بل لفترة أطول.
مجرد اقتراح قابل للنقاش والتعديل، مع أن مرور الوقت في جمود لن يكون بالضرورة في صالح الجزائر الجديدة.
المقال نشر يوم 24-03-2019