مقالات

دولة البلطجة

من عادتي ألاّ أسارع إلى التفاؤل عندما يتعلق الأمر بالجزائر وما يجري فيها، إلا أنني فعلتها عند انطلاق تظاهرات 22 فبراير 2019 وما زلت لحدّ الآن طامعا في أن يكون تفاؤلي في محله.

لن أتطرق الآن إلى مصادر التفاؤل وقد أعود إليها في مناسبات لاحقة، لأني أرى أن الأهم الآن هو أن يستمر كل صاحب فكر حر في تنبيه الجزائريين إلى المطبات التي تهدد مسيرة الحراك وتمنع القطار من الالتحاق بركب الأمم المستقلة والشعوب المتحررة. لست هنا لأناقش أي أحد يعتقد صادقا أو ماكرا أن الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية في الظروف جرت فيها كان هو الحل الأسلم والأنسب لأني أعلم تماما أن الزمن هو وحده الكفيل بتبيان الحق من الباطل.

في هذا المقال أود تنبيه الغافلين إلى خطورة استمرار الجهل في تنويم عقول الجزائريين ودفعهم إلى الاعتقاد أن من هم مستمرون في حكم هذا البلد هم أناس أسوياء ووطنيون صادقون. الأدلة كثيرة جدا، وسأكتفي هنا بمثال واحد أرجو صادقا أن يقنع القارئ أن الجهل ليس وحده السائد في أعلى هرم السلطة، بل الروح البلطجية أيضا.

الرئاسة الجزائرية أصدرت قبل أيام بيانا تؤكد فيه أن التعامل مع الأخبار الرسمية سيكون من الآن فصاعدا عبر قناة وكالة الأنباء الجزائرية فقط “ودونها يصنّف ضمن الدعاية والأخبار المغلوطة“. البيان هلل له من هلل ولا أذكر أني قرأت تعليقا ينتقده مع أنه يستحق ذلك، وسأعود إليه مستقبلا دون أدنى شك، إلا أن أول انطباع حضرني وأنا أقرأ نص البيان أنه كان على محرره أن يختار حلا أفضل وأكثر “موضوعية ودقة”، وذلك بأن يكتب أن “المعلومة الرسمية توزع عبر بيانات من رئاسة الجمهورية، تنشر في الموقع الرسمي للرئاسة”. أليس هذا أشد حرصا على تفادي أي خلل؟ وهنا تكمن الكارثة، لأني عندما قرأت الخبر المنشور رأيت من الأفضل التأكد أولا من صحة الخبر ومن ذلك البحث عن تفاصيل أخرى وحيثيات. والمكان الأسلم للاطلاع على المعلومة الرسمية المتعلقة برئاسة الجمهورية لا يمكن أن يكون غير الموقع الرسمي للرئاسة.

إلى هنالك تحولت وليتني ما فعلت (اضغطوا على هذا الرابط لتتأكدوا بأنفسكم). موقع رئاسة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية الإلكتروني تحول في العهد النوفمبري الباديسي إلى أربع صفحات لا خامسة لهما! اثنتان بالعربية وما يقابلهما بالفرنسية. وكل ما فيها أخبار (أو عناوين) مختارة لنشاطات رئيس الدولة (المنتهية ولايته) عبد القادر بن صالح. وحتى لا أتهم زورا وبهتانا بالتحيز وتصيد الأخطاء فقد انتظرت خمسة أيام كاملة لعل الفريق الإعلامي الرئاسي الجديد يسارع إلى وضع حد لهذه المهزلة، علما أن أول ما يجب الاطمئنان عليه هو سلامة وصحة الموقع الرسمي للدولة. قد يتغير الموقع مستقبلا، بل لا بد من ذلك.

لكن بعد ثلاثة أسابيع، بالتمام والكمال، من انتخابات الرئاسة، وفي عهد الديجيتال وتناقل الأخبار خلال ثوان، لا يزال رئيس الجزائر هو عبد القادر بن صالح، ولا تنصدموا إلى قلت لكم إن الرجل وفريقه احترموا الدستور الجزائري بطريقة عجيبة في الأمان، الدستور حدد لعبد القادر بن صالح أجلا لبقائه في الحكم لا يتعدى الرابع من شهر يوليو 2019، وآخر خبر في موقع الرئاسة يعود إلى يوم 5 يوليو 2019. وبعد ذلك فراغ تام. لا خبر عن الموعد الجديد للانتخابات ولا شيء عن مختلف التحضيرات ولا عن حصول هذه الانتخابات ولا عن الوافد الجديد إلى قصر المرادية، وأيضا لا معلومة عن تنصيب الرئيس الجديد ولا عن الأوسمة الموزعة يومها ولا عن إقالة بدوي ولا تعيين الوزير الأول الجديد. لو سألتموني رأيي لقلت لكم إن في الرئاسة فريقا من الجزائريين (قد يسميهم البعض وطنيين ويراهم الآخرون عملاء) الموالين للحراك الشعبي الذي لا يعترف لا بالانتخابات ولا بكل ما جاء بعد انقضاء العهدة الدستورية لرئيس مجلس الأمة. نعم الموقع الرسمي للرئاسة لا يعترف بانتخابات 12 ديسمبر 2019، وكل ما عاشته الجزائر منذ الخامس من يوليو الماضي إنما هو “لا حدث” في نظر رئاسة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية.

تحدثت في عنوان المقال عن البلطجة، وقد يتساءل أحدكم عن علاقة موقع غير محدّث بالبلطجة، فأقول إن ما اكتشفته هناك لم يجعلني أتوقف عند انعدام المهنية والاحتراف في مؤسسة يفترض أن تختار لوظائفها أناسا من خيرة الجزائريين وأوسعهم كفاءة في مختلف التخصصات. لا فريق بن صالح الذي رأى أن أهم خطوة إعلامية له هي تغيير مدير التلفزيون، ولا فريق تبون الذي اختار من اختار ليكون مديرا لجهاز الإعلام في الرئاسة نجحا في اختبار تكنولوجيا العصر الحديث، وهما اللذان كانا مع الراحل الڤايد صالح يشددان في كل مناسبة على أنهم سائرون إلى إقامة الجزائر الجديدة، جزائر الحداثة والعصرنة.

عبد القادر بن صالح، من حيث لا يدري أو يدري، أسس لثقافة البلطجة الرسمية والعلنية في أعلى هرم السلطة في الجزائر. لقد جعل، هو وفريقه، الجزائر الرسمية تولد في 9 أبريل 2019 وتقبر في 5 يوليو 2019. وما قبل ذلك بعده منعدم. حتى إذا سلمنا بأن عهد بوتفليقة كان عهد حكم عصابة سرقت البلد فإن الأخلاق السياسية تجبرنا على أن نكون أذكى مما تفتقت عنه عبقرية بن صالح وفريقه. بوتفليقة وأخوه كانا يحكمان البلد طيلة عشرين عاما، وأدنى الأخلاقيات تملي علينا أن نعترف أن هذه العصابة هي التي اختارت شخصا اسمه عبد القادر بن صالح ليكون رئيسا لمجلس الأمة وخليفة محتملا لرئيس الجمهورية، وهي التي عينت فريقا اسمه أحمد ڤايد صالح لتولي منصب رئيس أركان الجيش ونائبا لوزير الدفاع.

عهد بوتفليقة بكل ما فيه لا يمكن أن يمحى بضغطة زر، وإلا لكان حريا بنا أيضا أن نتحول إلى موقع الجريدة الرسمية لنحذف من أرشيفها كل ما أصدره بوتفليقة ومن كان قبله ربما.

والخلاصة هي أن ما حصل للموقع الإلكتروني الرسمي يثبت للجاهل قبل العاقل أن الغباء السياسي والتنطع لا يمكنهما أن يقودا إلا إلى مزيد من الهلاك ورفع الجزائر أكثر فأكثر إلى مصاف البلدان التي ابتليت بمخلوقات جاهلة عابثة تتحكم في مصير الملايين. والأدهى من ذلك والأمرّ أن سخرية الأقدار سخرت لهذه المخلوقات أناسا سخروا شهاداتهم العلمية العالية للستر على الجهل والفساد والظلم.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى