ارشيف القدس العربي

رؤساء من غرف التحنيط وفتنة من قاعات التحرير

رؤساء من غرف التحنيط وفتنة من قاعات التحرير

قدّمها أحد المواقع الإخبارية الجزائرية على أنها “إشاعة صيف”، لكن سرعان ما سارع الموقع نفسه إلى تصديقها وبدأ يبني القصور حولها. الخبر أو إشاعة الصيف (المتأخرة) تقول إن هناك احتمالا كبيرا أن يعود الجنرال اليمين زروال إلى سدة الحكم في الجزائر خلفا للرئيس عبد العزيز بوتفليقة المقرر أن تنتهي عهدته الدستورية في أبريل 2009.

يقول موقع (لوماتان) إن بعض رفقاء الجنرال زروال الذي تولى منصب الرئاسة في الجزائر بين 1994 و1999 وعددا من السياسيين وممثلين عن المجتمع المدني طلبوا منه الترشح لخلافة الرئيس بوتفليقة، وقد أقنعه هؤلاء أنه يمثل (البديل الوحيد) لإنقاذ البلد بحكم رصيد الثقة الذي يحظى به في الأوساط الشعبية التي ترى فيه الرجل النزيه والوطني المخلص. ويضيف التقرير الإخباري أن الجنرال زروال تحفظ عن الرد على مريديه لكنه شاطرهم الرأي في أن حصيلة فترتَيْ حكم الرئيس بوتفليقة كانت كارثية وأن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا النحو. ثم جاءت البشرى تقول إن الرئيس الجزائري السابق لا يستبعد الترشح لمنصب الرئاسة في انتخابات أبريل 2009، لكن بشرط أن يُنتخب بطريقة ديمقراطية وأن يحظى بمساعدة من أجل دفع الجزائر نحو طريق التجديد الديمقراطي. ويتساءل كاتب التقرير إن كانت اللوبيات التي بدأت تتحرك من أجل تجسيد خيار عودة زروال إلى سدة الحكم تنسق مع أصحاب القرار الفعليين. وأصحاب القرار الفعليون هم بطبيعة الحال أولئك الذين يقررون من يصلح للترشح لمنصب الرئاسة في الجزائر ومن لا يصلح وأيضا من هو سعيد الحظ الذي سيقود الجزائريين.

أصحاب القرار هم الذين يعرفون أحسن من الأحزاب السياسية ومن كل الشعب الجزائري من يليق لحكم الجزائر ومن لا يليق، وبعد أن يقرروا وفق المعايير التي يضعونها لأنفسهم بأنفسهم من سيكون رئيسا للجزائر يكشفون عن اسمه ويقولون للشعب والأحزاب هذا هو رئيسكم فرشحوه وزكوه ثم انتخبوا عليه بطريقة ديمقراطية وتكون النتيجة طبعا مطابقة لما هو متوقع لأن السياسيين والناخبين لا يعصون لأصحاب القرار أمرا ويفعلون ما يؤمرون.

سبعة أشهر تفصلنا عن الموعد الرسمي المقرر للانتخابات الرئاسية ولا أحد يعلم لحد الآن إن كان أصحاب القرار قد فصلوا في أمرهم أم ليس بعد. الضجيج اشتد حول تعديل الدستور لتمكين الرئيس بوتفليقة من الترشح والفوز بفترة ثالثة، لكن الرئيس نفسه لم يفصح لحد الآن عن موقفه إن كان سيتقدم لفترة ثالثة أم سيكتفي بفترتين كما ينص الدستور الحالي. المقربون منه واللاهثون وراءه يحاولون أن يفهموا الشعب أن بقاء بوتفليقة على كرسي الرئاسة أمر مفروغ منه، لكن كل ذلك يبقى مجرد أمنيات لا يمكن أن تتحقق ما لم يصدر مجلس إدارة أصحاب القرار قراره النهائي. والظاهر أن القوم لم يتفقوا بعد ما دام اسم الجنرال زروال قد أخرج للتداول العلني.

الساحة السياسية تعج بما يسمى أحزابا سياسية وهي ممثلة في البرلمان وتعقد اجتماعاتها في كل مرة، لكنها لحد الآن غير قادرة على الخوض في أمر الانتخابات الرئاسية لأنها لم تتلق إيعازا يخبرها ماذا عليها أن تعمل. والحال أن الإيعاز لن يخرج عن أمرين اثنين، تقديم مرشح عنها يكون سندا للمرشح الفائز وديكورا يزين به العرس الانتخابي ويعطي مصداقية للانتخابات الديمقراطية والنزيهة، أو تزكية مرشح مجلس إدارة الجزائر وحمله على الأكتاف إلى حين الإعلان عن فوزه بنتيجة ديمقراطية ونزيهة وشفافة.

ولعل الإعلان عن خيار الجنرال زروال يكون قد أربك عبيد السلطة الفعلية في الجزائر وهم لا يريدون أن يخرجوا لمساندة مرشح يتضح لهم في نهاية المطاف أنه ليس هو المرشح المختار للفوز. وأي خطأ سيكلفهم إبعادا من فلك السلطة وحرمانا من لبن البقرة الحلوب ولا أحد منهم يريد أن يدفع نفسه إلى الانتحار. ولكم أن تتخيلوا مدى الحيرة التي تعلو وجوه خدام السلطة وهم يقرؤون أن هناك احتمالا بترشح الجنرال زروال. هل هذا معناه أن قرار التخلي عن بوتفليقة قد اتخذ أم أن جماعة من داخل مجلس إدارة الحكم الفعلي في الجزائر أرادت أن تدفع باتجاه هذا الخيار؟ كم يجب على الجزائريين أن ينتظروا ليعلموا من هو رئيسهم القادم حتى يتحضروا للانتخاب عليه؟ الذين تحدثوا عن الجنرال زروال يقولون إنه لم يوافق صراحة كما أنه لم يرفض العرض، والرئيس بوتفليقة بدوره لا يزال ينتظر مصيره ولا يزال بطبيعة الحال يضغط من أجل ترجيح كفته وإعلان ذلك في عرض مسرحي جميل.

أما الشعب الجزائري فعليه أن ينام قرير العين ويتأكد أن أعضاء مجلس إدارة الحكم سيراعون مصلحته وسيختارون الأصلح والأليق مثلما عودوه منذ سنوات الاستقلال. فلكل اختصاصه، واختيار الرئيس هو من صلاحيات العين الساهرة على الجزائر ما ظهر منها وما بطن. ثم إن منصب الرئيس منصب حساس ولا يمكن أن يُترك أمره لشعب قاصر. فهو عاجز عن اختيار رؤساء البلديات ونواب البرلمان فكيف بمنصب رئيس الدولة. أما القلة القليلة من السياسيين الذين يحاولون الوقوف في وجه إرادة عصبة الحكم فإن الإقصاء سيكون مصيرهم وسيُحرمون من نصيبهم في الكعكة.

الجنرال زروال اختير سنة 1994 ليتولى منصب رئيس الدولة بقرار مباشر من عصبة الحكم، ثم اختير بعد عام ليكون المرشح الفائز في انتخابات رئاسية شفافة وديمقراطية شارك فيها متسابقون آخرون رضوا بأن يكونوا أرانب يجرون وراءه ويوصلونه إلى خط النهاية معززا مكرّما وبطريقة ديمقراطية محكمة. وشاءت الأقدار الساخرة أن يحكم الجزائر رجل لم يكن يحلم يوما بذلك المنصب ولم يكن حتى يطمح إليه، بل فقط لأن العصبة قررت أن يكون هو الرئيس، فصار رئيسا ولم يقدر على إكمال فترته الرسمية فقرر الاستقالة ودعا لانتخابات رئاسية مبكرة اختير أن يكون بوتفليقة فائزا فيها، وقد اشترط هو الآخر قبل الموافقة على قرار أصحاب القرار أن يكون فوزه بعد انتخابات حرة وديمقراطية وتعددية، فجرت الانتخابات وانسحب جميع منافسيه من مضمار السباق في آخر لحظة وأعلن هو فائزا بنسبة مريحة وبطريقة شفافة وديمقراطية وتسلم مقاليد الحكم من الجنرال زروال ولا أحد يعلم بعد إن كان سيرد له أمانته أم سيحتفظ بها لفترة أو فترات أخرى.

لا أحد يعلم متى سيُكتب للشعب أن يختار رئيسه بنفسه ووفق قناعته ولا يضطر لانتظار قرار فوقي يملي عليه ماذا يختار ويفرض عليه حكاما جاهزين وقادرين على العودة إلى الحياة بمجرد رفع التحنيط عنهم. كثير من السياسيين يعلنون هنا وهناك رفضهم للطريقة التي يتم بها اختيار الرئيس، لكنهم يرضون لأنفسهم بدخول قاعة التحنيط مع باقي الشلة طمعاً في أن يأتي دورهم ويقع عليهم الاختيار يوما ويخرجوا من علب الأرشيف لينتخبهم الشعب بطريقة ديمقراطية لا غبار عليها. حتى أننا نسمع كثيرا منهم يقول إنه لن يترشح إلا إذا اختاره الجيش ليكون مرشحه، أي المرشح الفائز، أو أنه لن يترشح إذا تأكد له أن الجيش اختار مرشحا آخر لأن قواعد اللعبة تنص على هذا.

أحد السياسيين الفطاحل الذي شارك أكثر من مرة في سباق الرئاسيات راضيا أن يكون أرنب سباق، اشترط هذه المرة، مقابل مشاركته، أن يحضر العرس الديمقراطي الجزائري القادم مراقبون دوليون ليضمنوا للانتخابات مقدارا أعلى من النزاهة والشفافية ويكونوا شهودا على الخطوات الديمقراطية التي تخطوها الجزائر بثقة واعتزاز، ثم اشترط بعد ذلك أن لا يكون الرئيس بوتفليقة ضمن قائمة المرشحين رغم أنه سانده في وقت سابق، وهو وحده الذي يعلم إن كان شرطه هذا مبررا لعدم ترشحه للانتخابات أم أنه تسرب إليه أن الورقة الرابحة لم تعد بوتفليقة بل شخص آخر ربما هو الجنرال زروال!

***

انتقد رئيس الحكومة الجزائرية أحمد أويحيى صحافة بلده واتهمها بتأجيج نار العنف من خلال طريقة تناولها للأخبار الأمنية، ثم عاد الناطق باسم الحكومة الأسبوع الماضي إلى التأكيد على هذه النقطة، داعيا الصحافيين “إلى عدم الوقوع في فخ الترويج للاعتداءات الإرهابية وترويع المواطنين بها”. وأعلن نفس المسؤول أن “التحقيق في العمليات الإرهابية الأخيرة كشف أن الجماعات الإرهابية متأثرة من الحصار وتضييق الخناق عليها، وعادت من خلال التفجيرات الانتحارية لتبحث عن الصدى الإعلامي لعملياتها والذي وجدته في وسائل الإعلام”.

طبعاً الصحافة هي التي تتحمل كل أوزار وخطايا الدنيا، فهي التي تشجع على انتشار ظاهرة الانتحار المتفاقمة لأنها تتكلم عن شباب وشيوخ ونساء انتحروا في أماكن عدة من الجزائر لأسباب مختلفة منها الفقر والضغوط الاجتماعية والقهر المسلط عليهم. وهي أيضا التي جعلت أغلبية شباب الجزائر يفكر في الهروب من بلده على متن قوارب الموت لأنها لا تتوقف عن نقل أخبار الشباب “الحراڤة” الذين يفضلون الموت غرقا أو العيش في مراكز إيواء المهاجرين غير الشرعيين في البلدان الأوروبية على أن يبقوا في بلدهم دون كرامة ولا خيط أمل في مستقبل مضيء. والصحافة هي التي ساهمت في نشر الفساد والاختلاس في عموم البلد لأنها تملأ صفحاتها كل يوم بأخبار الاختلاسات والمختلسين، وهي التي وسعت دائرة الفقر والأمية في الجزائر لأنها لم تجد من الأخبار والتحقيقات ما تنجزه غير الغوص في هذا العالم المشين. وهي التي ترفع كل عام نسبة البطالة في أوساط الشباب وخريجي الجامعات وهي التي جعلت الإجرام ظاهرة متفشية بسبب افتراءاتها، وها هي الآن تقف وراء الترويج للأعمال الإرهابية لأنها لا تتوقف عن نقل أخبار العمليات الانتحارية التي تنفذها جماعات الإرهاب هنا وهناك.

والحل؟ ليس هناك أسهل منه. قرار واحد يصدره صاحب الفخامة أو نائبه يقضي بغلق كل الصحف وحبس كل الصحافيين أو ترحيلهم وسيرى الجميع كيف أن الجزائر ستتحول في زمن قياسي إلى بلد النعيم، تسجل فيه أعلى نسبة نمو وأقل نسبة بطالة ولن يبقى فيه مجال لأي شخص للتفكير في الهرب أو الانتحار أو السرقة أو السطو أو تعاطي الرشوة والمخدرات. ولن يكون هناك مجال أيضا لأي حديث عن السطو على إرادة الشعب أو تزوير الانتخابات. بلد بدون صحافة جنة فوق الأرض، فلنجرب لعل العالم يقتدي بنا!


المقال نشر يوم 15-09-2008

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى