أرشيف زاد دي زاد

“رحمة ربي” حلت على الجزائر

كنت أعتقد أن الأمر يتعلق بشطحة مشعوذ جديد أراد أن يوهم الجزائريين أنه توصّل إلى حلٍّ جذري لداء السكري الذي قهر البشرية في عصرها الذهبي، لكن عندما دنا أجل نزول الدواء السحري إلى الأسواق تداركت الأمر وفهمت أن القضية جادة وأن هناك شخصا حصل على دكتوراه في الطب من جامعة جنيف السويسرية لكنه رفض أن يكون مثل باقي أطباء العالم، فقرر أن يعود إلى وطنه الجزائر وأن يتوارى عن الأنظار، رفض أن يمارس مهنة الطب أو أن يدرج اسمه ضمن قائمة نقابة الأطباء الممارسين، مفضِّلا بذلك أن يستثمر الموهبة والحكمة التي نزلت عليه في البحث عن أفضل السبل للقضاء على الأمراض المستعصية قضاء مبرما.

اكتشفت أنه اخترع علاجا “نهائيا” لمرض الصدفية المزمن، وأن المرهم الذي اخترعه يباع بمائة يورو في أوروبا. طبعا هذا المرض لم يعد له وجود في الدنيا بفضل هذا المرهم المذهل. لكن إذا اكتشف أو سمع أحدكم أن هناك من يعاني منه في إحدى بقاع العالم، فعليه أن ينصحه باقتناء هذا الدواء، ليس من الصيدليات بطبيعة الحال بل عليه أن ينتظر وصول الطائرات القادمة من الجزائر إلى المطار الذي هو فيه ويسأل أصحاب الشنط إن كان أحدهم يمارس مهنة تهريب المرهم، هذا كلام ليس من عندي بل المخترع الفذ هو الذي يؤكده.

وحتى لا يتفرع بي الكلام إلى مواضيع أخرى ليست من صميم حديث الساعة، أعود إلى الضجة التي رافقت موعد بدء تسويق “رحمة ربي”، ليست الرحمة التي نعرفها، فتلك لا تسوّق ولا يختص بها صاحبها إلا من يشاء. أما “الرحمة الجزائرية” فهي لكل مصاب بداء السكري.

وأنا هنا بالمناسبة أعتذر للمخترع على تقصيري في الاطلاع على تفاصيل الأمر عندما كان الناس يتداولون الموضوع قبل شهور عديدة، وأرجو أن يكون عذري مقبولا، لأنني كما قلت كنت أعتقد أن الأمر يتعلق بمشعوذ جديد عصفت به رياح الفوضى الضاربة في البلد. لكني أعترف أيضا أنني منذ ثلاثة أيام وأنا أشد طرفي النهار وزلفا من الليل ملتهما كلما كُتب عن الموضوع ومشاهدا لكل الحصص والحوارات التلفزيونية التي تحدث فيها “قاهر الأمراض المزمنة والمستعصية” عن “رحمة ربي”، فعلت ذلك لأفهم أين الخلل في الضجة الحاصلة اليوم وحول ما يتردد من أنباء بشأن وقف إنتاج هذه “الرحمة” وسحبها من الأسواق في وقت كان الملايين يترقبونها بشغف كبير.

تمكنت بعد جهد جهيد من تجميع بعض المقاطع وقررت إهداءها لمن أخذته الغفلة كحالي واستيقظ فجأة ليرى الدنيا تهتز حواليه بين من يتهم صانع “رحمة ربي” بالاحتيال وبين من هو واقف إلى صفه متهما الطرف الآخر بالعمالة للخارج وخيانة الوطن والشهداء وبأن همهم الوحيد هو قطع “رحمة ربي” التي جلبها لهم ذلك الدكتور غير الممارس والذي يكشف للناس كيف أن جهات في الخارج بشرته أنه مرشح لا ينافسه أحد لجائزة نوبل، لكنه يعلق قائلا إن تلك الجائزة لا تهمه. طبعا فهذا الموقف الصاعق لا يأتي إلا من شخص عظيم وكبير يعرف قيمة نفسه ويدرك أن كل جوائز الدنيا ليست من مستواه، لأنه وصل إلى مستوى آخر أهّله لإنتاج “رحمة ربي” وتوزيعها على من يشاء من عباده.

ثم انظروا إلى تلك الهيبة والرهبة التي تشعّ من وجهه وهو يقول “أنا ركّعتُ السكري“. بماذا جعله يركع؟ برحمة ربي التي قال في البداية إنها دواء، ثم عاد ليقول إن “الرحمة” هي مكمل غذائي وليست دواء. لم يكن ذلك تناقضا في كلامه، بل لحكمة بالغة عنده، وقد اكتشفت أسرارها البليغة من خلال متابعتي المكثفة لكلامه في مختلف المناسبات، حتى وجدت الضالة. هل تعتقدون أنه عاجز عن إنتاج الدواء؟ كلا وألف كلا. فعظيم مثله، لا تهمه مائة جائزة نوبل، قادر على كل شيء وهو الحكيم العليم. بدأ بالمكمل الغذائي لأنه فقط “أركع” السكري، وعندما يبدأ إنتاج الدواء سيجعل هذا السكري “يسجد له”. وكل شيء عنده بمقدار ويأتي على مراحل، فلا تستعجلوه. الركوع يأتي قبل السجود والرحمة تشمل الجميع.
يبقى على الجزائر الآن أن تفتخر بهذا القهار الجبار، ولا بد من حكومة فخامته أن تأخذ التحذير الذي أطلقته مذيعة “الشروق تي في” عندما دعت إلى توفير الحماية القصوى للدكتور لأن حياته الآن أصبحت في خطر حقيقي.
وبمناسبة الحديث عن المذيعة الموقرة، لا بد أن أعترف بأنني وجدتها أحسن شخص عرف قدر الاكتشاف العظيم وأفضل من روّج له على مدى الشهور الماضية، وقد أفهمت الدكتور نفسه أنه لولا القناة لما تعرّف الجزائريون والعالم على هذا الاكتشاف الرهيب، لأنه كان موجودا منذ سنوات، لكنه كان نسيا منسيا حتى كشفت القناة السرّ وتعرّف الجزائريون على هذا الدواء المعجزة. ماذا؟ دواء؟ من قال إنه دواء؟!!


المقال نشر يوم 12-12-2016

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى