ارشيف القدس العربي

رسالة إلى (أصحاب القرار) في الجزائر.. إن كانوا موجودين!

عاتبني قارئ كريم في تعليق على مقال سابق لأنني استعملت مصطلحا تعوّدنا، في الحقيقة، على استخدامه عندما نصل في الحديث إلى سدرة منتهى النظام الحاكم في الجزائر. سألني القارئ الكريم لماذا أتخفى وراء مصطلح (أصحاب القرار) بدل الخوض في تحديد هويات هؤلاء (الأصحاب) بدقة حتى لا يبقى الكلام فضفاضا وعموميا، كما فهمت من تعليقه. استغربت في البداية ما ذهب إليه المعلق لأن مصطلح (أصحاب القرار) لم يعد في الجزائر كلاما فضفاضا، بل صار يشبه أي اسم عَلم آخر. فعندما يتكلم أي شخص أو يكتب أو يشير إلى (أصحاب القرار) أو (السلطة الفعلية) أو (حكام الجزائر) لا يتجه تفكير المتلقّي إلى بائع خضروات الحي أو إلى إمام المسجد الفلاني أو إلى زعيم الحزب الفلاني ولا حتى إلى اسم الرئيس الفلاني، بل (أصحاب القرار) متعارف أنهم فوق كل تلك الشبهات. فهم الذين يصنعون الرؤساء ويصنعون الحكومات ويصنعون الأحزاب ويصنعون المنظمات الجماهيرية ويعينون من يشاؤون على رؤوسها، كما أنهم هم الذين يذلون من يشاؤون ويخوِّنون من يشاؤون ويهمِّشون من يشاؤون وعقارب البلد تتحرك كلها وفق إرادتهم وحسب إشاراتهم، ولا أزيد كثيرا حتى لا أسقط في كبيرة الشرك بالله.

لكن لا أخفي عليك عزيزي القارئ أن سؤال قارئنا الكريم بقي عالقا في ذهني ومع قرب موعد الانتخابات الرئاسية الجزائرية والمظاهر المحيطة بها صار السؤال يؤرقني ويأخذ من تفكيري حيزا جديا. وقبل أن أخوض في هذا الموضوع أود أن أنفي عن نفسي من البداية تهمة لا أدّعيها، لأنني لن أطرح على (أصحاب القرار) الأفاضل أية أسئلة من نوع، لماذا تخوّلون لأنفسكم حق التقرير نيابة عن الشعب؟ أو لماذا تسعون في كل مرة إلى مصادرة رأي الشعب الحرّ في اختيار من يليق به وما يليق به؟ أو من الذين أعطاكم الحق لكي تفعلوا ما أنتم فاعلوه في بلد يدعي مسؤولوه أنه بلد جمهوري ديمقراطي وشعبي؟ لن أطرح مثل هذه الأسئلة، ومن أراد أن يطرحها فهو حرّ إذا وجد لذلك حيزا.

سؤال القارئ الكريم بات محرجا، لذلك حاولت أن أشفي غليله وأجد له أسماء معروفة أو على الأقل جهات بعينها يمكن أن يفكر فيها عندما يقرأ أو يسمع أحدا يتحدث عن (أصحاب القرار) أو (السلطة الفعلية). حاولت وحاولت لكنني اليوم أعترف أنني فشلت في العثور على جواب يقتنع به السائل الكريم. هل نحن نتحدث عن أشباح أو عن جنس آخر من غير جنس البشر أم عن أناس لا يعيشون وسطنا وبين ظهرانينا؟ حتى أحد الذين تربوا وعاشوا طوال حياتهم في أروقة الحكم الجزائري منذ استقلال البلد إلى آخر أيام عمره عندما حاول تقدم خطوة جادة في وضع أصبعه على (أصحاب القرار) لم يكشف لنا اسما أو شخصا بعينه، مثلما تمنى عليّ القارئ الكريم، بل اخترع مصطلحا جديدا هو (الديوان الأسود)، ولا أدري هل زاد الفقيد محمد يزيد بمصطلح (الديوان الأسود) غموضا إلى الغموض أم فسّر الماء بالماء أم أضاف دليلا جديدا يساعد على حل اللغز.

هناك في الحقيقة تفسيرات، غير معتمدة، للمصطلح اللغز، فهناك أغلبية يتجه تفكيرها مباشرة عند سماع مصطلح (أصحاب القرار) أو (السلطة الفعلية) أو حتى (الديوان الأسود) إلى الجيش أو المؤسسة العسكرية كما يحلو للجزائريين تسميته، وهناك من هم أشد وعيا وخبرة بالشأن السياسي يكونون أكثر دقة فيتحدثون عن جهاز المخابرات الذي هو من ضمن المؤسسة العسكرية لكنه يتحرك في استقلالية تامة، كما يقول هؤلاء الواعون. لكن حتى هذا لا أعتقد أنه سيُشفي غليل قارئنا الكريم، لأنه لن يحصل على اسم أو أسماء بعينها. وقد كان بودّي أن أقول للسائل المحتار إن رئيس جهاز المخابرات الجنرال محمد مدين (المدعو توفيق) هو صاحب القرار الأول والأخير في الجزائر وأرفق باسمه صورة (غير حديثة) له ليتعرّف عليه هو وكثير من الجزائريين، لكنني أعلم أنه سيحرجني بسؤال آخر يطلب فيه مني أن أؤكد له وأثبت له بالدليل القاطع أن الجنرال توفيق ولا أحد غيره هو الآمر الناهي في الجزائر وكل الذين يمارسون الحكم في البلد إنما هم يفعلون ذلك بشكل صوري. وقد يقول لي ما دام الجنرال توفيق هو حاكم الجزائر الفعلي فلماذا الحديث عن (أصحاب القرار) بصيغة الجمع وعن (صناع الرؤساء والحكومات) بصيغة الجمع بدل القول (صاحب القرار) أو (صانع الرؤساء والحكومات)، وفي هذه الحال سيكون بودّي أن أقول إن الجنرال توفيق ليس وحده، بل معه جنرالات آخرون يسهرون الليالي من أجل يعيش البلد مستقرا، وهم من أجل هذا يتابعون عن كثب كل صغيرة وكبيرة ويعرفون كل شيء عن كل واحد. نعم إنهم يعرفون كل شيء عن كل واحد ويعرفون أكثر من الشعب نفسه لأنهم هم الذين يقررون في النهاية من يصلح لهذه المهمة ومن لا يصلح ويقررون أيضا متى يفعّلون كل واحد في المنصب الذين يختارونه له ومتى ينهون صلاحيته. لكن حتى هذا الكلام لا أعتقد أنه سيفيد القارئ السائل في شيء لأنه يريد أسماء محددة وهذا حقه.

ولأنه طرح السؤال عليّ وليس على شخص آخر، فأنا سأحاول أن أجيبه بكل صدق وموضوعية. أنت تريد أسماء أخرى لأنك غير مقتنع أن الجنرال توفيق هو الذي يحكم وحده، وأنا هنا سأضيف اسمين آخرين هما الجنرال محمد تواتي والجنرال العربي بلخير، الأول يقال عنه إنه (مخ الجيش) وبالتبعية يكون (مخ الجزائر كلها) والثاني لا أحد يشكك في دوره الكبير في صناعة الرؤساء وتلميعهم وتقديمهم إلى الصف الأول. لكن السائل الكريم قد يضحك مني ويرد علي أن الجنرال تواتي لم يعد في الخدمة منذ سنوات والجنرال بلخير ابتعد هو الآخر منذ أعوام إلى الرباط وآخر الأخبار تقول إنه يعاني من مرض أبعده عن مقر عمله في السفارة الجزائرية في المغرب منذ مدة وهو الآن مشغول بنفسه. قد يكون هذا الرأي صحيحا لولا أن هناك من يصر على أن جماعة (أصحاب القرار) تبقى تحافظ على صفتها سواء كانت تمارس الوظيفة أم أحيلت على التقاعد، وإذا افترضنا أن هذا الكلام صحيح فلا بدّ أن نضم إلى هذا الثلاثي زملاء لهم ابتعدوا هم أيضا عن الواجهة وعلى رأسهم الجنرال خالد نزار الذي لم يخفت صوته في الجدل السياسي بعد والجنرال محمد العماري قائد أركان الجيش السابق (طبعا خرجنا عن إطار المخابرات، لكن أعتقد أن الأمور متشابكة فعلا)، ومن الذين أعرفهم أيضا كما يعرفهم أغلب الجزائريين الجنرال إسماعيل العماري، لكن هذا الأخير قد غيّبه الموت وأستطيع أن أجزم هنا أن هذا الأخير صار فعلا خارج الدائرة على خلاف الآخرين الذين يبقى الكلام عن دورهم مجرد تخمينات لا تفيد القارئ الكريم في شيء.

إلى هنا لا بد أن أتوقف عن مواصلة التخمينات، وأسمح لنفسي بالمقابل بمخاطبة أصحاب المعالي أو أصحاب الفخامة أو أصحاب السمو (أصحاب القرار) بمناسبة موعد الرئاسيات المرتقبة في غضون الشهرين القادمين في بلادنا. وليعذرني الأخ السائل إن بقي على جهله فكلنا في الأمر غُلف، وليسمح لي لأقول له إنني أفضل أن أبقى على جهلي بمن يختبئ أو يوجد وراء أسوار (السلطة الفعلية) في الجزائر، لا يهمني الآن أن أعرف إن كان هو الجنرال توفيق وحده أو أنه هو نفسه خارج اللعبة أو معه آخرون وكم عددهم، فقد أكون مهتما بالأمر إذا تقرر يوما أن يكون لنا رأي أو حق اختيار من يقررون مكاننا. لكنني الآن أريد أن أخاطب هذه الجهة المجهولة المعلومة وأسأل أهلها، هل أنتم مطلعون على ما يدور في أفكار الجزائريين كلهم أو أغلبهم بخصوص الرئاسيات القادمة؟ هل تصلكم المعلومات التي تقول إنهم لم يعودوا يثقون في أية استشارة شعبية لأنهم يعتقدون أن نتائجها محددة سلفا وأن الكلمة الفصل تبقى لكم مهما كان رأي الشعب معارضا أو مناقضا لها؟ قد تكون كفّتكم أثقل في الميزان من كفة باقي أفراد الشعب الجزائري وقد تكون رؤيتكم واهتماماتكم وحرصكم على البلد يعتمد على مقاييس تختلف عن المقاييس التي يعتمدها باقي الشعب في اختيار النظام الذي يحكمه والأشخاص الذين يتولون المهمة، لكن اسمحوا لي يا (أصحاب القرار) أن أتقدم إليكم باقتراح متواضع قد يكون خطوة تحرك المياه الراكدة في البلد وتساعد بعض الناس على الاقتناع أن الجزائر هي الأخرى تشهد حركية سياسية إيجابية كما يحدث في باقي بلاد العالم. فبدل أن تختاروا للجزائريين رئيسا واحدا ووحيدا وتختارون معه مجموعة أرانب ترافقه في السباق لتحصل على بعض الجزر عند خط الوصول، لماذا لا تختارون اسمين أو ثلاثة من الذين تثقون فيهم ثقة كاملة تامة عامة وتقدموهم للشعب ليختاروا من بينهم واحدا فتكونون بهذا ساهمتم في إضفاء نوع من السوسبانس والحيوية على الانتخابات وتبقون رقاب الشعب معلقة إلى آخر لحظة بدل تركها متدلية غير آبهة بما يجري لأن الجميع صار يعلم اسم الرئيس قبل سنوات من موعد الانتخابات.

أعلم أنكم ستجدون صعوبة كبيرة في العثور على أكثر من اسم، خاصة أن كل الذين يمكن أن تثقوا فيهم سيرفضون الفكرة وسيشترطون عليكم قبل كل شيء أن يكونوا وحدهم في المضمار والباقي يجب أن يكتفي بدور الكومبارس ولا يزيد طموحه عن ذلك. وفي هذه الحالة اسمحوا لي أصحاب المعالي والفخامة والسمو (أصحاب القرار) بسؤال واحد، وإذا رأيتموه سؤالا سخيفا فلا تردوا عليه ولا تلتفتوا إليه حتى. لماذا لا ترشحون كبيركم أو واحدا منكم ليكون هو رئيس البلد بدل مواصلة ممارسة الحكم من وراء حجاب وترك الآخرين يحكمون باسمكم وأنتم تعلمون ما في ذلك من مخاطر. بما أنكم تعلمون أكثر من أي جزائري آخر ماذا يليق بالشعب وماذا ينفعه وماذا يضره وما هو أفضل له، فلماذا تحرجون أنفسكم بالبقاء وراء الستار ومراقبة الممثلين وأنفاسكم معلقة خوفا من أي خروج عن النص؟ اخرجوا يا سادة إلى العلن وأعلنوا أنفسكم حكاما على الشعب وأنا متأكد أنكم لن تجدوا من يعارض الفكرة، وحتى إذا قررتم أن تفعلوا ذلك عن طريق الصندوق فاعلموا أنكم ستفوزون وسيفرح الشعب بكم كثيرا. أو أقول لكم، ما دام هناك شح في المرشحين الذين يملأون العين، لماذا لا يخرج واحد فيكم مرشحا لمنافسة صاحب الفخامة وعندها يسعدنا أن نتفرج ونراقب أحزاب الائتلاف والتحالف والمنظمات الجماهيرية والزاحفين على كروشهم وهم يتلوون كالحيات أو كالذي به مس من الشيطان؟ فهل نبدأ يا سادة يا كرام جمع التوقيعات؟


المقال نشر يوم 04-02-2009

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى