شيء من التاريخ

شيء من التاريخ
هذا المنشور لا علاقة له بأية مناسبة ولا حادثة. البداية كانت بمقطع فيديو أرسله إلي صديق عزيز أثار بداخلي فضولا للبحث في جوانب أخرى من الموضوع، وهي عادةٌ -قد لا تكون سليمة- عندي في “تضييع” أوقات طويلة في البحث والغوص في مواضيع جانبية نيتي من ورائها فهم الذي أمامي من عدة جوانب، تجنبا للسطحية ورغبة في تركيب صورة أشمل وأكمل. غرقنا في التفاصيل مرة أخرى!!
خلال رحلة البحث السريع عثرت على قصاصة خبر لوكالة الصحافة الفرنسية تتحدث عن علاقة متوترة بين هواري بومدين وفيدال كاسترو. استغربت للأمر وأنا الذي كنت أعتقد أن العلاقة بين الرجلين كانت منذ الأزل جبنا على عسل. الرجلان كانا يحكمان بلديهما (الجزائر وكوبا) بشعارات الاشتراكية والثورية، فلماذا إذن التوتّر؟
وحتى لا يحاول أحد منكم استحضار ما قد يكون عالقا بذهنه من صور أو كلام يفيد بعكس ما أشرت إليه، دعوني أقل لكم إن هذا التوتر كان أشبه بسحابة صيف سرعان ما انقشعت وتغلب “النفاق” المسمى “سياسة” و”مصلحة” على “المبادئ”، نعم حتى “المبادئ” لا بد أن أضعها بين مزدوجتين.
التوتر بين كاسترو وبومدين كان سببه، يا سادة، انقلاب 19 جوان (يونيو) 1965، الذي نفذه قائد أركان جيش الجزائر المستقلة حديثا، هواري بومدين، ضد رئيسه ورئيس الجزائر حينها أحمد بن بلة، الذي وصل هو الآخر إلى سدة الحكم بانقلاب على الحكومة المؤقتة (وجب التنويه).
كاسترو كان مولعا ببن بلة ومن ورائه بثورة التحرير الجزائرية، فلم يستسغ أن يتعرض صديقه إلى انقلاب. بل الذي حزّ في نفسه أكثر هو أن يطلق المنقلبون على بن بلة أوصافا من قبيل أنه ديكتاتوري أو عابث بأهداف الثورة ومصالح الشعب.
بعد أسبوع، بالتمام والكمال، من حدوث الانقلاب (الذي يسمى أيضا التصحيح الثوري) ألقى فيدال كاسترو خطابا طويلا عريضا أمام تجمع للطلاب الكوبيّين حذّر فيه منذ بدايته أنه سيقول كلاما جارحا وخارجا عن النسق الدبلوماسي المعهود.
دافع كاسترو في خطابه بشراسة عن أحمد بن بلة ورفض أي اتهام له بخيانة الثورة الجزائرية، بل قدّم بعض المعطيات التي كان يرى أنها دلائل على أن بومدين وفريقه الانقلابي هم الذين يجب تصنيفهم ضمن “أعداء الثورة”. وقال في ما قاله إن أسلحة الثورة والشعب وُجّهت ضد من كان جديرا بثقة الشعب وكان معبّرا عن إرادته. ولم يفته التذكير بوقوف كوبا إلى جانب الجزائر في ثورتها التحريرية، عندما أعرب عن أسفه لكون الأسلحة التي أرسلتها كوبا للثوار والدفاع عن الشعب الجزائري، أيام ثورة التحرير، صارت الآن تستخدم في التقاتل بين الأشقاء وضد الحكومة الجزائرية والشعب.
والطريف أن كاسترو خصّص لوزير خارجية بومدين، آنذاك، عبد العزيز بوتفليقة أكثر من حيّز في خطابه لانتقاده، حيث اتهمه بالرجعية والموالاة لليمين (أي الغرب). وقال فيه أيضا إنه عدوّ للاشتراكية.
وكان طبيعيا أن يثير هذا الكلام حفيظة بومدين، الذي اتخذ قرارا بعد أربعة أيام من بث الخطاب بغلق مكتب وكالة الأنباء الكوبية في الجزائر، وربما كانت هناك قرارات أخرى أو خطاب هجوم عكسي من بومدين أو وزير خارجيته.
لا أعلم بالضبط متى وكيف عادت المياه إلى مجاريها وكيف اقتنع كاسترو أن بومدين وبوتفليقة لم يعودا عدوين للشعب الجزائري وللحركة الثورية الاشتراكية في العالم، لكن الأكيد هو أن رئيس كوبا أدى زيارة رسمية إلى الجزائر بعد سبع سنوات من الانقلاب ووقف على الإنجازات العظيمة للانقلابيين، ولا تذكر المراجع التي طفت عليها بسرعة إن كان كاسترو قد زار صديقه بن بلة في سجنه أو حتى أخذ له معه شيئا من السيجار الكوبي الفاخر الذي كان بومدين يتفاخر به لسنوات طويلة!