ارشيف القدس العربي

صحة بوتفليقة: سر دوّخ مخابرات الغرب

فتحت السلطات الجزائرية صفحة حرب جديدة ضد بعض السفارات الغربية العاملة في الجزائر وتوعدت بردّ قاس بعد أن تبين لها أن موظفين في هذه السفارات صاروا يتحركون في محيط الدائرة المقربة من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة للاستعلام عن تفاصيل وضعه الصحي وعن ما تردد من بدأ التحضير لاستخلاف شقيقه الأصغر سعيد بوتفليقة.

كان هذا ملخص تقرير انفردت به صحيفة الخبر الجزائرية في عدد يوم السبت الماضي، وجاء هذا على خلفية أنباء نشرتها صحف ومواقع إلكترونية سويسرية، وتناقلتها صحف محلية، عن وجود الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في إحدى عيادات جنيف وظهوره علنا هناك. صحيفة الخبر نقلت عن (مصدر على صلة بالملف)، قوله إن ما بات يعرف بملف الرئيس الصحي بات مطلوبا في دول غربية عدة، خاصة مع غياب أية معلومات حديثة في الموضوع لدى عواصم غربية مؤثـرة منذ مغادرته لمستشفى (فال دوغراس) العسكري الفرنسي. وأضاف التقرير أن ملحقين أمنيين وعسكريين في تلك السفارات فشلوا (والحمد لله) في اختراق الحصن المنيع لمحيط الرئيس بوتفليقة وطاقمه الطبي ومنيت محاولاتهم (التجسسية) بالفشل الذريع. وقد أبلغت السلطات الجزائرية (عبر قنوات اتصال أمنية) السفارات الغربية (بأن الجزائر تدرس كل الخيارات للجوء إلى رد دبلوماسي قاس ضد كل ملحق عسكري أو أمني في الجزائر يحاول التقرب من محيط الرئيس أو طاقمه الطبي أو أصدقائه).

وقد نسي مصدر الصحيفة الجزائرية شيئا أهم للجزائريين من كل ذلك الفتح المبين المتمثل في وضع حد لنشاط عصابات تجسسية معتمدة في الجزائر تحت غطاء دبلوماسي. نسي المصدر العليم أن يخبر الجزائريين الذين لم يحاولوا التقرب من محيط فخامة الرئيس وطاقمه الطبي إن كان الرئيس بوتفليقة هو الذي رآه مراسلو الصحف السويسرية في أحد عيادات جنيف أم أن الأمر يتعلق بشبيه له كان يوجد هناك صدفة رفقة سيارة على الأقل تحمل لوحة البعثة الدبلوماسية الجزائرية في جنيف.

الجزائريون تعجبهم كثيرا بطولات أجهزة الاستعلامات، خاصة تلك المتعلقة منها بنشاطات مكافحة التجسس، إلا أنهم يتوقون أكثر لمعرفة إن كان ما تنشره الصحف الأجنبية من أخبار عن رئيسهم صحيحا أم مغلوطا. هل سافر بوتفليقة إلى سويسرا أو إلى أي بلد آخر؟ هل كان سفره للراحة والاستجمام أم للتبضع أم لزيارة بعض أصدقائه هناك أم للعلاج؟ هل كان الذي شاهده مراسلو الصحف السويسرية هو فعلا رئيس الجزائريين أم أن الأمر يتعلق بشبيه له أم بشخص عادي آخر وقع الصحفيون في شبه من أمرهم لأنهم لا يعرفون أصلا تفاصيل وجه الرئيس بوتفليقة الدقيقة؟ وإذا كان الأمر فعلا يتعلق بالرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، فهل زار تلك العيادة السويسرية للوقوف على صحة أحد أقربائه أو أصدقائه هناك؟ أم ذهب ليزور أحد الدكاترة أو العاملين في العيادة بحكم معرفة مسبقة بينهما، خاصة أن بوتفليقة قضى أعواما عديدة في ذلك البلد الأوروبي الأنيق قبل أن يعود رئيسا إلى الجزائر؟ وإذا كان الغرض من تنقله إلى تلك العيادة بغرض العلاج، فهل يتعلق الأمر بفحوص روتينية دورية أم أنه ذهب ليعالج من أمر ما؟ وهل هذا الأمر ما ذو علاقة بالوعكة الصحية التي أصابته قبل أربع سنوات وخضع إثرها لعملية جراحية في مستشفى فال دو غراس العسكري الفرنسي، أم أن الأمر يتعلق بوعكة أخرى؟ وهل هذه الوعكة أخف أم أشد من تلك التي سبقتها؟

كنت، في مقال كتبته منذ سنوات، قطعت على نفسي عهدا أن لا أتطرق إلى الوضع الصحي للرئيس بوتفليقة، وكان ذلك بمناسبة تصريح خاص للمعني بالأمر قال فيه إن وضعه الصحي على ما يرام ولا داعي لإثارته بمناسبة وبغير مناسبة، ووعد هو الآخر في تلك المناسبة أنه سينسحب من منصبه ويعود إلى بيته عندما يقدّر أن وضعه الصحي لم يعد يسمح له بمزاولة نشاطه كرئيس للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية. والحق أنني اطمأننت أكثر بخصوص هذا الموضوع عندما قرر فخامته تعديل الدستور ليبقى في الحكم سنوات أخر، وعندما أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية الأخيرة وفاز فيها بتلك النسبة الساحقة التي نعرفها جميعا.

لهذا فإنني هنا أؤكد أنني لم أنقض عهدي السابق، والموضوع الذي وددت إثارته لا علاقة له بمرض فخامة الرئيس وإن كان مرتبطا به. أصحاب القرار في الجزائر عوّدوا فعلا شعب البلد أن لا يتدخل في أمور لا تعنيه وأن عليه فقط أن يهتم ببيته وعمله ونفسه ومآسيه، أما ما يتعلق بتسيير شؤون البلد وبالخيارات السياسية والاقتصادية والثقافية الكبرى فلها رجالها ودواليبها، وكذلك الأمر بكل ما يتعلق بقيادات البلد بدءا من رئيس الجمهورية إلى رئيس أصغر وأنأى بلدية، الشعب هنا غير معني لا باختيار من يترشح للمنصب ولا بمن يتقرر فوزه ولا بما يفعله ولا حتى بمصيره.

هم يقررون من سيكون الرئيس وهم يقررون إلى متى سيبقى رئيسا وهم يقررون ماذا يُروى للشعب من حكايات الرئيس، وهم يقررون متى يظهر الرئيس ومتى يسافر ومتى ينيب عنه من يتدخل باسمه ومن يسافر ممثلا شخصيا له، وهم يقررون ماذا يجوز للشعب أن يعرفه عن رئيسه ومتى وماذا يبقى طي الكتمان إلى أجل مسمى أو إلى الأبد. كل ما على الشعب أن يفعله هو أن يقف (أو يجلس إن أراد) كل يوم أمام شاشة التلفزيون الحكومي ويسمع إن كان هناك خبر يتعلق بفخامة الرئيس أم لا. مرة يكون يومه خاليا من أي نشاط، وقد يدوم ذلك أياما أو أسابيع، ومرة يستقبل في اليوم ضيفا أو اثنين أو أكثر بين رئيس دولة أجنبية ورئيس غرفة برلمانية أجنبية ورئيس غرفة اقتصادية أجنبية، ومرة يخرج في جولة ومرة يرأس مجلسا وزاريا ومرة يرسل رسالة تهنئة ومرة يُقرأ باسمه خطاب أمام منتدى دولي أو وطني وهكذا…

وفي كل ما بثه التلفزيون من أخبار عن فخامته خلال الأيام والأسابيع الماضية لم نسمع أن الرئيس سافر خارج البلد لا إلى سويسرا ولا إلى روسيا، وعندما لا يقول التلفزيون شيئا فإن الأصل أن طائرة فخامته لم تبرح أرض المطار أبداً. وإذا رأى أي صحفي أجنبي أو أي شخص آخر رئيسنا في منطقة أخرى من العالم عليه أن يكذب عينيه أو يردد في سره (يخلق من الشبه أربعين). ومثل ذلك على (جواسيس) السفارات الأجنبية (بما فيها سفارة سويسرا) في الجزائر وفي أي منطقة أخرى من العالم أن يعلموا أن فخامة الرئيس بوتفليقة موجود في الجزائر ولم يغادرها لا للتبضع ولا للعلاج ولا حتى لإجراء فحوص.

في كل بلاد العالم، حتى في دول عربية، عندما يطرأ على صحة رأس البلد طارئ تنشر الجهات الرسمية بيانا يفيد أن الرئيس أو الأمير أو ولي العهد غادر البلد إلى هذا البلد أو ذاك للعلاج أو لإجراء فحوص، ثم يُنشر بيان آخر يفيد بأن الفحوص أو العلاج تم بسلام وأن الرئيس أو الأمير أو ولي العهد باق هناك أو سافر إلى بقعة أخرى من العالم لقضاء فترة نقاهة، وعندما يعود يعلم الجميع بذلك ويذهب من يذهب إلى المطار لملاقاته ويشرع الشعب في إصدار رسائل التهاني والتمنيات. المرض والصحة سُنتان ثابتان منذ وجود الإنسان والموت أيضا حق على كل مخلوق، (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة، فمن زُحزِح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)، هذا كلام قاله خالق الناس ولا جدال فيه.

هذه حقائق لا بد أن الرئيس بوتفليقة يؤمن بها، لكن الذي لا يؤمن به هو والمحيطون به هو أن الجزائر تعيش الآن عهدا عرف فيه العالم تطورات كبيرة وأن نمط التسيير السوفياتي قد انقرض حتى في البلد الذي تأسس وتطور فيه، ولم يبق له ذكر إلا في كتب التاريخ السياسي الحديث وفي عقول حكام الجزائر طبعاً الذين لا يزالون يصدقون أن هناك أسرارا تخفى في هذا العالم وأن مخابرات الغرب تعجز فعلا عن معرفة ما تريد متى تريد ومن أي جهة تريد.


المقال نشر يوم: 17-06-2009

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى