“صندوق التضامن” يُبعث من جديد!
إذا كانت هناك جائزة يمكن أن تمنح لأذكى وزير في حكومة صاحب الفخامة، فإن الفائزة الوحيدة بلا منازع هي وزيرة التضامن الوطني مونيا مسلم، أولا لأنها كانت وراء الفكرة العبقرية الداعية إلى تبرع الموظفات الساميات براتبهن الشهري كاملا للدولة، وثانيا لأنها أنقذت زميلها وزير الداخلية من أزمة تورّط فيها منذ شهور ولم يعرف لحدّ الآن كيف يتخلص منها. يومها أطلق الوزير نور الدين بدوي تصريحا أحرج به فخامته، حيث أعلنها صريحة: “البترول خلاص، ماكانش.. والدراهم ماكانش. الدراهم اللي يدخلوا من البترول إذا قدرنا نخلصو بيهم الموظفين والعمال رانا ملاح. هذه هي الحقائق التي يجب أن نقولها لبعضنا البعض”.
كيف يصدر منك مثل هذا الكلام أيها الوزير وأنت الذي يفترض أن تحافظ على معنويات الشعب عالية وإيجابية؟ أم لعلك تعتقد أن فخامة الرئيس مشغول بأحواله الشخصية ولا يتابع تصريحات أعضاء حكومته؟ صحيح أنه تنبأ للبلد بأزمة بترولية قبل أن يتسلم مقاليد أول ولاية له في 1999، لكنه قال لنا (وقد أحضر لنا مدير سوناطراك وقتها عبد المجيد عطار ليؤمِّن على نبوءته) إن آبار النفط ستجف بعد عشرين إلى خمس وعشرين سنة، ونحن لم نصل بعد إلى هذا الأجل المحتوم. ثم إن الفأل السيئ الذي صدر عنك يخرب كل ما بناه فخامته طيلة فترات حكمه. وأنت تعلم أن الشعب انتخب عليه بالأغلبية الساحقة الماحقة في 1999 وأعاد انتخابه في 2004 ثم ألحّ عليه أن يأمر بتعديل الدستور حتى يبقى في الحكم أبد الدهر، لأنه نجح باقتدار في ملء خزينة الدولة حد التخمة وخزائن دول أخرى بل حتى صندوق النقد الدولي ناله خيره، وعشرات الآلاف من المشاريع الاقتصادية التي انطلقت في عهوده الزاهية والتي أوصلت البلد حد الاكتفاء الذاتي في كل شيء تقريبا، ثم تأتينا أنت اليوم لتقول لنا (ماكانش الدراهم، والبترول خلاص). من قال لك أصلا إننا لا زلنا بحاجة إلى هذا البترول؟ فسياسة الحكومة الرشيدة تمكنت منذ سنوات طويلة من تحرير البلد من قبضة الموْرد الوحيد، وصارت مصادر دخل الدولة متنوعة ومتعددة والعجلة الاقتصادية تدور بسلاسة تفوق سلاسة الساعات السويسرية، نعم الساعات السويسرية ولست أعني البنوك السويسرية.
تخيل أيها الوزير لو أن زميلتك لم تتدخل في الوقت المناسب بمقترحها العظيم، كيف كنت ستلقى فخامته يوم التوقيع على قانون المالية بعد أيام؟
وزيرة التضامن مونيا مسلم كانت مبدعة فعلا عندما أطلقت مقترحها القاضي بأن تتبرع الموظفات الساميات في الدولة برواتبهن من أجل الجزائر وأن يكتفين بنفقات أزواجهن عليهن. كل ذلك ليس إلا التفاتة بسيطة، كما قالت، ومبادرة رمزية وردا لجميل الدولة التي “أعطت لنا كل شيء”.
لا أدري هل شرعت الحكومة في وضع خطة لتجسيد هذه الفكرة العظيمة أم أنها تنوي تضييع هذه الفرصة الثمينة لتقف الجزائر مرة أخرى رافعة رأسها عاليا أمام العالم لتلقنه درسا في التضامن وإنكار الذات ورد الجميل للدولة. لا أعتقد أيضا أن موظفة واحدة ستتخلف أو ستغضب من هذه الفكرة العبقرية، ولا أرى أي زوج سيرى مانعا في تأدية واجب القوامة الذي ذكرتنا به الوزيرة مشكورة، بل على العكس سيتشرفون بذلك وسيقطعون أمامهن عهدا أنهم سيستمرون في الإغداق عليهن ولو انقطع حبل الزواج يوما -لا قدّر الله- لأنهم فعلا يريدون لبلدهم الخير ويريدون أن يبدعوا في تضحياتهم من أجلها.
طبعا قد يطلع علينا بعض المتذمرين الأنانيين، لكني أثق في أن الحكومة الفاضلة ستقنعهم بسرعة عندما تذكرهم بتلك التجربة الراقية والناجحة التي مرت بها الجزائر في أول عهدها بالاستقلال، كلكم تتذكرون ما كان يسمى “صندوق التضامن”، عندما تخلت نساء الجزائر (لاحظوا أن المبادرة تأتي دائما من النساء وفي تلك المرة كانت من جميع النساء بدون استثناء) عن كافة حليهن لملء “صندوق التضامن” الذي لا يزال إلى اليوم حديث الخاص والعام وخيره يعمّ البلد أجمع.
لا أدري هل تسمح لي الوزيرة بإضافة مقترح إلى مقترحها بأن أطلب من الموظفات غير المتزوجات ومن الموظفين الذين لا يزال آباؤهم على قيد الحياة أن يغتنموا الفرصة هم أيضا وينضموا إلى المبادرة العظيمة لوزيرة التضامن، ولا أشك في أن الآباء سيرفضون أن يتكفلوا بأولادهم مهما كبروا ولا بأحفادهم من أجل تخليد اسم الجزائر.
ولولا خوفي من أن تتحول وزيرة التضامن نسيا منسيا لقدمت مقترحي الذي يدور في رأسي، وهو على كل حال لا يخرج عن قالب قوامة الزوج على زوجته، وأقول إن المطلوب من كل جزائري وجزائرية، شبابا وشيوخا وأطفالا، موظفين كانوا أم أرباب أعمال أم عاملين في القطاع الخاص، وحتى أصحاب مشاريع تشغيل الشباب والباركينغ وطاولات السجائر، أن يحوِّلوا كل مداخيلهم إلى خزينة الدولة.
ولا تسألوني من سيصرِف على كل هؤلاء بعد ذلك، لأنني سأذكّركم أنّ رجلا عظيما سُئل يوما “لماذا بقيتَ فخامتَـك كل هذا العمر دون زواج؟”، فردّ قائلا “أنا تزوجت الجزائر”. إنه نعم الزوج ونعم الرجل وهو الذي سيتولى أمر الجميع شرعا وقانونا كما قالت الوزيرة. هل عرفتموه من هو؟