مقالات

صنم جديد

من الحكايات التي سمعناها في الصغر تلك التي تروي أن عمر بن الخطاب، في جاهليته، كان يصنع من عجينة التمر آلهة يعبدها ويخشع لها ويسبح بحمدها قبل أن يقرر أن صلاحيتها للعبادة انتهت وصارت صالحة للأكل فيلتهمها دون أن يلقي لها بالاً.

الحكاية تتكرر وتتكرر وتنتقل من جيل إلى جيل ومن عهد إلى عهد حتى وجدت في الجزائر من يعتنقها بصدر منشرح. صناعة الأصنام رائجة في الجزائر وعددها لا يكاد يحصى، لعل آخرهم كان رئيس الأركان الراحل. ومع أنني وعدت نفسي بتجنب الحديث عن ڤايد صالح إلا أن تكون هنالك ضرورة، إلا أن ما تعج به أعمدة عدد من الصحف وصفحات وسائط التواصل الاجتماعي اضطرني إلى العودة، ولنتفق من الآن أن المستهدف من كلامي ليس ڤايد صالح لأنه مهما كان إلها أو نبيا عند جزء من الناس أو نقيضه عند جزء آخر إلا أن قانون الرب لن يسمح له (ولا لغيره من الأموات) بأي حال من الأحوال الاطلاع على ما يقوله فيه الناس خيرا أو شرا. كلامي إذن هو موجّه حصريا للأحياء.

لعل الشيء الوحيد الذي فعله ڤايد صالح هو أنه سرق من عبد العزيز بوتفليقة حلمه في جنازة “بومدينية”، مثلما “سرق” منه منصبه، حيث من الصعب الآن أن نتصور جنازة شعبية لبوتفليقة الذي تحول بقدرة القادر من صاحب فخامة إلى زعيم عصابة. أما ڤايد صالح فقد تحول في لحظات جهل إلى “معبود الجماهير”.

ولو بقي الجهل مقتصرا على طبقة البسطاء والسذج لهان الأمر، بل لو وصل إلى بعض المتعلمين الذين تاهت ضمائرهم لكان هناك مبرر للسكوت. أما وأنه تعدى ذلك إلى من يعتقد أنهم أناس فضلاء فقد أصبح لزاما التدخل ولو من باب تسجيل الملاحظة. لا يمكن لوم الناس الذين تصدقوا بالخبز والحليب والفواكه على روح ڤايد صالح، إما اقتناعا منهم أو ركوبا للموجة أو لأي سبب من الأسباب، كما لا يحق لأحد تخوين أي شخص يعتقد صادقا أن ڤايد صالح قدم خدمة جليلة للشعب أو حتى جنّب البلد حربا عالمية ثالثة لأن كل واحد حر في تقييمه. لكن المستفز هو ذلك الاستنفار الذي اصطنعه أناس يحاولون عبثا أن يجعلوا للجيل الجديد من الجزائريين إلها كما كان لهم آلهة، وقد ذهب أحدهم حدّ “مناجاة” صنم أقامه لنفسه زورا وبهتانا، طالبا منه إيصال رسالة إلى “سي بومدين“، لا ليقول له مثلاً بلّغ سلامي الحار إلى “سي بومدين” أو “طمئن سي بومدين أن الجزائر بخير وقد انتقلت من يد رفقيك المدلل سي عبد القادر إلى يد مدللي سي عبد المجيد”، بل طلب منه أن يخبره أنه كان “وفيا” للشعب “رؤوفا به، صارما على أعدائه”.

أما من نعتقده من الأفاضل، فقد ذهب به الشطط إلى حد التأسيس لتاريخ جديد في مسيرة الجزائر الحديثة، مقترحا أن يشرع الجزائريون في إطلاق اسم هذه المرحلة بـ”عام الڤايد” على غرار “عام الفيل” و”عام الرمادة” أو “عام البون” المعروف عند الجزائريين، وليته تأمل قليلا في ما حوله ليرى أنه إذا كان لا بد للجزائريين من مرجعية يؤرخون بها فمن الأسلم أن تكون تحت تسمية “عام الحراك”. الجزائر سقطت لعقود وعقود في مستنقع التمجيد وعبادة أشخاص تبين أن كثيرا منهم في واد والشعب في واد آخر. بومدين كان (ولا يزال عند البعض) من أبرز الأصنام، ثم جاء بوتفليقة فحاول المسوقون له تنصيبه وليا لعهد الصنم الأول، ولم يمانع هو لأنه يعرف أن هذا المسلك مكسب له، ثم سرعان ما أفهم هؤلاء المتملقين الكاذبين أنه لا يريد أن يكون ظلا لبومدين فقبلوا صاغرين وتحولوا للتهليل لبوتفليقة وحده لا شريك له، وها هم الآن يحاولون محو تلك الخطيئة من أذهان الناس بصناعة صنم جديد سيأكلونه لا محالة لاحقا. ولكم أن تتابعوا خطابات تبون لتعرفوا كم أن هؤلاء الدجالين مخطئون في تشتيت ذاكرة الجزائريين بتأليه أشخاص لو تأملوا قليلا لتيقنوا أنهم عباد مثلهم دفعت به الظروف إلى مناصب المسؤولية ثم غادروها بما لهم وما عليهم ليأتي غيرهم ويغادر، ولا خالد ولا مخلد إلا الله وحده لا شريك له.

مشكلة الجزائريين المضللين والمضللين تبدأ من كذبة سرعان ما يصدقها البعض ويصر على ترسيخها البعض الآخر لتنطلق بعد ذلك آلة التجهيل والضحك على الذقون، فيتشكل تيار تنجرف إليه أطياف من عامة الشعب ومن المتعلمين فتتحول في أنظارهم الخدعة الصوتية إلى حقيقة ثم إلى ديانة لا ينكرها إلا ملعون. الجزائريون مثل غيرهم من البشر لم يعودوا في هذا العصر محتاجين إلى برامج تضليل صنعت في عقود غابرة، ولا إلى الاقتداء بما وجدوا عليه آباءهم، بل إن لديهم من أدوات المعرفة والترف التكنولوجي والعلمي ما يجعلهم ينظرون إلى حكامهم بعين المساواة والمساءلة بدلا من نظرة التذلل والانبطاح.

أصر على كلمة “التضليل” لأن هؤلاء يحاولون إيهام الجزائريين أن ڤايد صالح ولد يوم 22 فبراير 2019، وتوفي يوم 23 ديسمبر من نفس العام وأنه بعث لإنقاذ الجزائر من عصابة مجرمة وحماية الشعب من رصاص الجيش ثم تسليم البلد أمانة إلى رئيسها الجديد لتنطلق سالمة، آمنة، مطمئنة. بل حتى وفاته اعتبروها جاءت في وقتها، أي أن الله أمهله حتى نصب تبون رئيسا للجزائر، وهم يعلمون جيدا أن ڤايد صالح لم يصدر عنه يوما تصريح يعد فيه الجزائريين أنه سيستقيل من منصبه ويعود إلى بيته مباشرة بعد تنصيب الرئيس الجديد. وما دمنا في دوامة التخمينات لماذا لا نقول إن الله أراد خيرا بالجزائريين فتوفى الرجل الذي كان يخطط ربما لمزيد من التدخل في السياسة؟ أو مثلا إن الرجل كان سيقود البلد إلى مرحلة جديدة من التأزيم بعد الانتخابات فتدخلت إرادة الله لمنعه من ذلك؟ أو لنقل إن ما اقترفه في حق عدد من شباب الحراك جعل قدر الله يتدخل ليحرمه من الاستمتاع بالعيش في مرحلة خطط لها وأعد لها كما أراد؟ لا أدعي معرفة بخبايا الأقدار، لذلك ألزم نفسي بعدم التسليم بأن أيا من هذه الفرضيات سليمة، بل هي كلها تخمينات سقتها لأقول للجيل الجديد من الجزائريين: لا تنسق وراء المضللين ولا تؤمن بأي إله يصنعونه لك، لأنه مثلما أن هنالك فرضيات تدخل الرجل (أي رجل) جنات الفردوس فإن هنالك أيضا فرضيات أخرى يمكن أن تجعل نفس الرجل في الدرك الأسفل من النار. ونحن هنا لم نوجد لإدخال الناس الجنة أو النار، بل علينا أن نكتفي بتقييم الشخصيات العمومية تقييما سياسيا ونسلم بأن أي تقييم لا بد أن يحتمل الصحة والخطأ، وإلا فإننا نسقط نحن أيضا في دائرة المضللين.

الذين يؤلهون ڤايد صالح لا يريدون للجزائريين أن يتذكروا أن هذا الرجل عمل جنبا إلى جنب مع الذين يعتبرهم هؤلاء “جنرالات أو كابرانات فرنسا” وسبب مصائب الجزائر الحديثة كلها، وأنه كان من أوفى الأوفياء للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي صار في نظر هؤلاء أيضا رئيسا للعصابة التي دمرت الجزائر خلال العقدين الماضيين، وأنه لم يكن يؤمن بالحراك أشد الإيمان وقد سمعه الجزائريون في تسجيل صوتي لم ينكره كيف كان يسخر من “هذا المسمى حراكا”، وأنه أصر على إدخال أناس أبرياء إلى السجن وأنه أصر على أن يبقى بدوي رئيسا للحكومة رغم توصيات لجنة الحوار التي وافق على إنشائها ورغم وعود رئيس الدولة آنذاك بالاستجابة على الأقل لمطلب إطلاق سراح سجناء الرأي.

عندما نقيم بعين الميزان والحق سنرى أن الرجل ربما أصاب، ولكنه بلا أدنى شك أساء وأخطأ، وهذا يكفي لكي لا نظلمه أكثر بأن نجعله إلها قابلا للهضم ثم ينتهي في دورة كل ما يؤكل.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى