التوريث.. عدوى يجب القضاء عليها في مهدها

أرض الكنانة تشكو شيخوخة نظامها ووهن رئيسها ولا حديث هناك إلا عن الموضوع الجديد القديم (من يخلف فخامة الريس؟). سؤال مترف، في الحقيقة، هذا الذي يردده إخواننا المصريون صباح مساء، فهم يتساءلون وهم في قرارة أنفسهم يملكون الجواب، وهو أن خليفة السيد الرئيس لن يكون من خارج حلقة النظام الضيقة، أما الأسماء فهي مجرد تفاصيل لا تسمن ولا تغني. فأن يكون نجل فخامته أو رئيس مخابرات النظام ليس مهما، لأن التوريث في كلتي الحالتين قائم، فجمال مبارك هو ابن الرئيس الذي هو من صلب النظام، واللواء عمر سليمان هو ابن النظام أيضا، والمصريون لن يشعروا بفرق كبير إذا ورث هذا أو ذاك العرش.
لكن هذا ليس موضوع هذا المقال ولا هو شأننا اليوم، إلا في جزئيته المرتبطة بتداخل الشأن المصري في شأن كثير من الدول العربية وعلى رأسها البلدان المسماة مجازا بلدانا ثورية وقومية أو تقدمية كحال الجزائر. من هذه النافذة فقط أجدني مضطرا لأحشر أنفي في قضية قومية مصرية خالصة وأنضم إلى ملايين المصريين الذين يدعون الله ليل نهار أن لا يتحول كابوس التوريث إلى حقيقة قائمة، مع أن الكثير من المبتهلين شبه متيقنين أن البلاء نازل عليهم لا محالة، ذلك أن نظاما حديديا كالنظام المصري لا يمكنه أبدا أن يغادر ببساطة ويترك البلد في أيدي (المغامرين)، وأغلب الظن أنه قد أفلح في إقناع القوى العظمى الدولية والإقليمية بشرعية هذا المنطق.
أما نحن فلا يسعنا إلا أن نواصل الدعاء ونبقى آملين في حدوث المعجزة وفشل تجربة التوريث في مصر المحروسة، ولا نفعل هذا كما أسلفت كرها لنظام لا يحكمنا أو تعاطفا مع شعب هو أكبر من أن يُخاف عليه، بل خوفا من أن تنتقل إلينا العدوى. فقد رأينا كيف كانت (أم الدنيا) ملهمة لدول عربية كثيرة منذ حركة الضباط الأحرار التي حملت إلينا الزوبعة القومية العربية والظاهرة الإخوانجية ولا أبالغ إذا أضفت إليها العاصفة التكفيرية الجهادية. لا يزال الجزائريون يذكرون كيف أن حركة تشبه حركة الضباط الأحرار، (نسميها عندنا جماعة وجدة)، نسبة إلى المدينة الحدودية المغربية التي كان يرابط فيها ضباطنا الأحرار عشية الاستقلال، قادت انقلابا على الحكومة الجزائرية المؤقتة المدنية واستولت على الحكم بقوة الشرعية الثورية. وتشاء الصدف أيضا أن يعيَّن على رأس الدولة عضو من الجماعة إياها يدعى أحمد بن بلة الذي لم يكن يخفي هيامه وولعه بالرئيس جمال عبد الناصر وهو إلى الآن لا يزال يسبح بحمده ويفتخر بانتسابه إليه. حتى الرئيس هواري بومدين الذي نصّبه (أحرار وجدة)، إثر حركة انقلابية أسموها تصحيحا ثوريا، رئيسا على الجزائر خلفا للرئيس أحمد بن بلة، لم يكن بمنأى عن سحر الحركة الناصرية وعن وهج الثورة الاشتراكية الشيوعية بصفة عامة. كما أن مسلمينا (السياسيون أقصد) لا يزالون مرتبطين ارتباطا عضويا ومعنويا بحركة الإخوان المسلمين التي انطلقت من مصر، وقد كان الخلاف الذي دب أخيرا في أوصال حركة مجتمع السلم التي أسسها الإخواني الراحل محفوظ نحناح مناسبة للجزائريين ليتأكدوا من مدى ارتباط إخوان الجزائر بإخوان مصر وكيف أن سماحة المرشد العام كان يقود مساعي صلح بين الإخوة في صراعهم على خلافة عرش نحناح.
قد يقول قائل إن النظام الناصري اندثر والمسافة الزمنية بيننا وبين (جماعة وجدة) تناهز الخمسين عاما، ثم إن نظرية التوريث إذا نجحت في مصر فلن تنبت بالضرورة نباتا حسنا في الجزائر، خاصة أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لم يفكر يوما أن يكون له ولد، هذا اختياره وهو حر فيه ولا أحد يحاسبه على ذلك إلا الذي خلقه. قد يكون هذا صحيحا لولا حقيقتين اثنتين، الأولى هي أن بوتفليقة هو أيضا عضو من أعضاء (جماعة وجدة)، ولعله كان أصغرهم وقتها. والثانية هي أن له أخا صغيرا لعله يعامله بمثابة ابنه البكر، أي الوريث، بل كما قال أحد دهاة السياسة عندنا، إن له أكثر من أخ ولا بد أن يجد من بينهم من يورّثه عرشه بعد عمر طويل.
أعلن الأسبوع الماضي في الجزائر عن ميلاد جمعية تدعى (حركة الأجيال الحرة)، وكان من المفروض أن يكون هذا الخبر عاديا لولا أن هذه الحركة قُدمت للناس على أنها البذرة الأولى لحزب جديد يجري تفصيله على مقاس وريث العرش المرتقب سعيد بوتفليقة الشقيق الأصغر لفخامته، خاصة أن رئيس هذه الحركة لم ينف إمكانية تحول الحركة مستقبلا إلى حزب سياسي. ولم يكن بوسع أحد أن يقول إن (حركة الأجيال الحرة) هي حركة اجتماعية لا علاقة لها بألاعيب النظام وطموحات الرئيس ومحيطه، ذلك أن المتعارف عليه في الجزائر أن النظام منذ وقف المسار الانتخابي عموما ومنذ مجيء بوتفليقة خصوصا لم يعد يؤمن بشيء اسمه جمعيات أو تنظيمات مدنية أو أحزاب سياسية، هناك فقط فخامة الرئيس والكائنات التي تدور في فلكه وفي فلك النظام. اعتماد الأحزاب السياسية مجمد بقرار ملكي غير مكتوب، كما أن النشاط الحزبي للأحزاب التي ورثها بوتفليقة من العهد السابق ممنوع هو الآخر إلا أن يكون موضوعه تمجيدا لفخامته وعهد فخامته.
فكيف في بلد ممنوع فيه أي نشاط حزبي أو جمعوي مستقل يحصل فيه أفراد أتوا من مناطق مختلفة من البلد على ترخيص يسمح لهم بعقد اجتماع وإعلان تأسيس جمعية أو منظمة مدنية ويحلفون أنهم بريئون من تهمة الانتماء إلى النظام أو أن يكونوا النواة التي ينتظر أن يخرج منها حزب وريث العرش؟ البلد لا يزال يرزح تحت وطأة حالة الطوارئ (هل لاحظتم أن الشبه لا يزال قائما مع حالة أرض الكنانة؟)، والجميع يعرف أن الجمعيات والأحزاب المعترف بها لا تحصل بسهولة على ترخيص لتنظيم نشاطات عمومية، ومع ذلك تقرر شلة من المواطنين الالتقاء في فندق بالعاصمة والإعلان أمام وسائل الإعلام عن تأسيس منظمة مدنية، فعلوا ذلك وكأنهم في الولايات المتحدة أو في بريطانيا من دون أن تفسد عليهم قوات الأمن اجتماعهم أو تعتقلهم بتهمة مزاولة نشاط غير مرخص. أكثر من ذلك، فقد اختار هؤلاء اسما يرهنون به مستقبل الأجيال الصاعدة مثلما رُهنت الأجيال السابقة من طرف حركة ضباط وجدة الأحرار.
التوريث في جمهورية مصر العربية في حالة مخاض، بينما لا يزال في الجزائر علقة أو مضغة، لكن الخوف أن تكتب للجنين الحياة فتسري العدوى في الجسد الجزائري. ونداؤنا الأخير نوجهه لأحرار مصر (الأحرار الأحرار)، رجاء أجهضوا جنينكم وليكن التوريث كابوسا قديما، وتأكدوا أنكم إذا نجحتم فإن عدواكم ستستشري أيضا في الجسد العربي، ومثلما صعد نجم الضباط الانقلابيين في كثير من بلاد العرب أسوة بحركة الضباط الأحرار، فإن شبح التوريث سيتلاشى أيضا من أمام أعيننا بعد أن تطردوه من مصر. عندها لن يفرح كثيرا ابن عقيد الجماهيرية ولا ابن عقيد البلد السعيد ولا حتى سعيد الجزائر. فهل ستسمعون نداءنا يا أحرار مصر؟ نأمل ذلك، وإلا فسنغرق جميعا.
المقال نشر يوم: 05-08-2009