عرب الجمهوريات الديمقراطية

المواطن العربي عزيز وكريم في وطنه وحاكمه ينزله المكانة اللائقة به ويستنير برأيه قبل أن يخطو أية خطوة تخص مصيره ومستقبله. ثلاث مناسبات في ثلاثة بلدان تظهر للمشككين والصائدين في المياه المعكرة أن المواطن العربي يعيش مع حاكمه في وئام وانسجام يحسد عليهما.
في موريتانيا قرّر العسكر استرجاع مقاليد الحكم وإنهاء حالة الفوضى الديمقراطية التي استمرت 15 شهرا. عسكر موريتانيا صورة ناصعة لما يجب أن تكون عليه أنظمة الحكم في الجمهوريات الديمقراطية العربية، وهم حريصون على أن يمارسوا الحكم بعيدا عن نفاق الأنظمة العربية الأخرى. فبما أن الجنرالات هم الذين يحكمون هذه الجمهوريات، لماذا لا يفعلون ذلك علنا؟ لماذا يضطرون إلى الاستعانة بكومبارسات مدنيين عادة ما يؤدون أدوارهم بشكل سيئ تماما مثلما فعل الرئيس المخلوع سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله؟
والحق أن جنرالات موريتانيا من المشهود لهم بحرصهم على أن يبقى بلدهم يسير بنظام ديمقراطي معترف به، وليس أدل على ذلك من تأكيدهم في بيانهم الانقلابي الأول على التوجه الديمقراطي لحركتهم وعلى حرصهم على تنظيم انتخابات ديمقراطية في أقرب وقت ممكن. هل هناك ديمقراطية أصدق من هذه؟ وليتأكد الجميع أن الجنرالات لن يتراجعوا عن وعدهم بالحفاظ على النظام الديمقراطي في موريتانيا، لأننا سنشهد في أقرب وقت ممكن انتخابات رئاسية تعددية وبعدها يسلم الجيش للفائز مفاتيح القصر الرئاسي وعلينا أن نتوقع بعدها انتخابات برلمانية أكثر ديمقراطية من الانتخابات السابقة ثم حكومة ديمقراطية جديدة ترعى مصالح الشعب الموريتاني. قد تطول هذه التجربة أو تقصر إلى حين يقرر الجنرالات مرة أخرى أن النظام الديمقراطي صار منحرفا عن المبادئ التي انتخب على أساسها فيسارعوا إلى محاصرة الإذاعة والتلفزيون والإطاحة بالرئيس المنحرف، ويعلنوا في أول بيان لهم أنهم لا ينوون الاستيلاء على الحكم بالقوة ولا الانقلاب على المبادئ الديمقراطية وهو نفس الكلام الذي يقولونه لحماة الديمقراطية في العالم قبل التحرك نحو القصر الرئاسي. ونحن نعلم أن جنرالات نواكشوط يتمتعون بقوة الإقناع وهم نادرا ما يجدون في سفارات فرنسا وأميركا وإسرائيل وغيرها من يقول لهم إنكم مخطئون ويأمرهم بالتراجع عن قرارهم تحت طائلة عقوبات تصل حد التدخل العسكري لحماية اختيار الشعب والحفاظ على الحكم المدني.
والحق أن قوة إقناع جنرالات موريتانيا لا تتوقف عند أبواب السفارات، بل إنها تحظى بتأييد أوسع في الأوساط الشعبية، وهذا مؤشر إيجابي على أن تحركات السادة الجنرالات ليست موجهة لخدمة مصالحهم والحفاظ على مناصبهم، بل هي تصب في نهاية المطاف في صالح الشعب الموريتاني العظيم الذي تطبعه ميزة الاعتراف بالخطأ وبالجميل أيضا. وقد رأينا كيف بدا الموريتانيون (أو لنقل الأغلبية الساحقة منهم) نادمين على اختيارهم للرئيس محمد ولد الشيخ، بل ومتحسرين على قبولهم منذ البداية بالسير وفق خطة الجنرال (الآخر) ولد فال الذي انقلب على الجنرال (الآخر أيضا) معاوية ولد الطايع (والسلسلة لا تتوقف).
الموريتانيون اعترفوا أنهم أخطأوا عندما توجهوا إلى صناديق الاقتراع، كما أشادوا بطريقة مدهشة بالجنرالات وأثنوا على صنيعهم الجميل. وإذا أراد الإخوة الموريتانيون نصيحة من أخ لهم، فأنا أقول لهم إياكم أن تقبلوا بعد اليوم بأي اقتراح من الجنرالات للتوجه إلى صناديق الاقتراع. فقد أثبتتم أنكم لا تحسنون الاختيار وأنكم تجهلون ما يليق بكم وما لا يليق. لذا فإن الشعار الوحيد الذي يتعين عليكم أن تحملوه في الشوارع وأمام بيوتكم وأمام البرلمان أيضا هو الشعار التالي (أيها الجنرالات الأفاضل، تكرموا علينا بمنعنا من حقنا في التصويت لأننا لا نحسن استعماله، واقبلوا ثقتنا المتواضعة فيكم. وبما أنكم أعلم بمصالحنا وبمصالح بلدنا منا فإننا ندعوكم إلى اختيار من ترونه صالحا ومناسبا للمرحلة القادمة، ولكم كل الحق متى رأيتم أنه تولى عنكم أن تستبدلوا شخصا غيره به ولا يهم أن يكون مدنيا أو عسكريا أو حتى مستوردا، بل المهم هو أن تكونوا أنتم راضين عنه وعن أدائه والتزامه بالمصلحة العليا لموريتانيا وشعب موريتانيا كما تحددونها أنتم). كل أملنا أن نرى العسكر الموريتاني يختار للشعب رئيسه في قاعات مغلقة وأن تنتقل هذه التجربة إلى باقي شعوب الجمهوريات الديمقراطية، فهي شعوب تستحق أن يحكمها الجنرالات دون قناع.
***
غير بعيد عن موريتانيا، وقف الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة معلناً أمام شعبه أن بلده صارت معروفة في العالم بالتهريب (الترابندو) ومعروفة بالمخدرات ومعروفة أيضا بالآفات الاجتماعية. في نفس الخطاب الذي ألقاه أمام المنتخبين المحليين وأذاعه التلفزيون على ملايين المشاهدين اعترف فخامة الرئيس أن السياسة التي انتهجها طيلة عهدته الأولى وخلال السنوات الأربع من فترته الثانية لم تكن سوية ولم تكن سياسة تقود إلى الجنة كما كان يمني بذلك شعبه. فخامة الرئيس بوتفليقة يعلن لشعبه أن تسع سنوات من الحكم لم تكن تتماشى مع طموحات ومصالح الشعب الجزائري ودعا إلى ضرورة مراجعة هذه السياسة. طبعاً المراجعة لا يمكن أن تتم في ثمانية أشهر، وهي المدة التي بقيت من آخر فترة دستورية له، لذلك سمعنا السادة الأفاضل المنتخبين المحليين الذين كانوا يستمعون بآذان واعية إلى خطاب صاحب الفخامة يهتفون أمام الرئيس (عهدة ثالثة) ومعناها أنهم يدعونه إلى التقدم لرئاسة البلد خمس سنوات أخرى رغم أن دستور البلد ينص صراحة على أن للرئيس الحق في البقاء على كرسيه فترتين متتاليتين فقط. لكن بما أن فخامته اعترف أن الطريق الذي جر إليه البلد لم يكن يوصل إلى الجنة ولا بد من مراجعته، فمن الطبيعي أن يُمنح الرئيس فسحة وقت أخرى للبحث عن الطريق التي توصل الشعب إلى الجنة، وقبل أن يصل إلى الجنة عليه أن يدخل القبر طبعاً. وإذا لم تكفه فترة حكم ثالثة فلا حرج عليه أن يمدد لنفسه فترة رابعة وخامسة وسادسة، وليكن متيقنا أن شعبه العظيم لن يقف في وجهه أبداً، لكن عليه فقط أن يضمن بقاء الجنرالات راضين عنه ومتيقنين أنه مستمر في خدمة المصالح العليا للوطن. ويا ويح من غضب عليه الجنرالات! لأن غضب الشعب في غضب الجنرالات.
وليعلم الجميع أن شعب الجزائر العظيم ومحلليها وسياسييها لا يختلفون كثيرا عن جيرانهم من الشعوب، لا بد من مراجعة بعض التعليقات التي أعقبت تصريحات فخامة الرئيس. فقد اعتبر هؤلاء أن كلام رئيسهم شجاعة ما بعدها شجاعة وقالوا إن الاعتراف بالخطأ فضيلة. ماذا ننتظر أكثر من هذا؟ الرئيس المفترض أنه قائد القاطرة يعترف أنه كان يمشي في طريق جهنم (إذا اعتبرنا أن هناك الجنة وهناك النار ولا شيء آخر بينهما)، وبعد ذلك يخرج من أوساط الشعب والمحللين والسياسيين من يدعو إلى الاعتراف بشجاعة صاحب الفخامة. وهذا الأخير يؤكد في نفس الخطاب أنه بكلامه هذا لا يجرم أحدا ولا يقصد طرفا بعينه ولا مسؤولين معينين. نعم اعتراف الرئيس بالفشل يشكل دافعا كافيا لكي ينال ثقة شعبه ودعمه للاستمرار في الحكم سنوات أخرى.
قد يقول قائل إن اعترافات بوتفليقة بفشل سياسته وعدم اتخاذ أية إجراءات جزائية في حقه أو في حق أطراف بعينها لها تفسيران لا ثالث لهما، فإما أنه رجل يتلذذ بتسويط شعبه ولا يبالي وإما أنه يتحدى الجميع ولسان حاله يقول أنا أسير بكم وبالبلد إلى الهاوية وأجاهر بذلك لكنني أعلم علم اليقين أنكم لن تحركوا ساكنا وأنكم لن تختاروا غيري لحكمكم.
طبعاً هذا كلام غير لائق وفخامة الرئيس يعلم أن الشعب الجزائري دخل منذ زمان سن اليأس ولم يعد بمقدوره أن يلد رئيسا آخر يحكمه. وفخامته نفسه اعترف في الخطاب إياه بعجز القيادة الحكيمة عن العثور على جزائريين تؤهلهم كفاءاتهم لتسيير ولايات جديدة، وكان في هذا يبرر عدم ترقية عدد من المدن إلى مصاف الولايات، وقال إن الإمكانات البشرية تقل عن الطلبات الموجودة الآن في البلاد. لكن هل الجزائريون يحتاجون فعلا إلى أن ترتقي مدنهم إلى ولايات أم أنهم فقط يريدون أن يجدوا في مدنهم ما يكفيهم من المستشفيات والمطارات والجامعات والمصانع؟ ماذا يهمهم أن تكون بلدتهم مسيرة من طرف وال أو رئيس بلدية إذا توفرت له مرافق حياة كريمة؟
***
كل الأمل أن يبقى فخامته فترة أخرى ليواصل المسيرة التي بدأها والتي صفق لها الشعب طويلا ولا يزال، وقدوتنا في ذلك جارنا العزيز شعب تونس الذي ارتاح طويلا وهو يستمع إلى رئيسه يؤكد له أنه نازل عند رغبته وقبل البقاء في الحكم فترة خامسة. وقد جاءته أول مباركة من جاره العقيد الذي أعلن بلغة عربية سليمة لا شية فيها أن مستقبل وازدهار شعب تونس في أيد أمينة.
المقال نشر يوم 13-08-2008