عن قوائم الممنوعين من السفر
تداولت وسائل إعلام محلية في الجزائر قوائم لأشخاص قررت النيابة العامة منعهم من السفر بموجب المادة 36 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري، وتزامن ذلك مع معلومات منشورة عن قرار آخر بمنع جميع الطائرات الخاصة من مغادرة الجزائر. صحيفتان على الأقل تتبارزان منذ أيام في “تنوير” الرأي العام بأخبار مسربة من طرفي المتصارعين الأساسيين برسم آخر أنفاس السلطة (قايد صالح وسعيد بوتفليقة)، والنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله!
صحيفة (الشروق) تقول إن أوامر منع السفر كانت بأمر من “قيادة الجيش الوطني الشعبي“، بينما تصرّ صحيفة (النهار) على إشهاد الرأي العام أن ما يجري في هذا الخصوص يتم “دون موافقة رئاسة الجمهورية“، وكأن الجزائريين اليوم في حاجة إلى مزيد من التدويخ أو لديهم وقت يضيعونه في أتفه ما يمكن أن يخرّب عليهم مسعاهم نحو استرداد حريتهم وكرامتهم المغتصبتين منذ عقود طويلة.
منع الفاسدين المفسدين من رجال الأعمال وغيرهم من مغادرة الجزائر والتحقيق معهم أمام القضاء لا يمكن إلا أن يكون عملا صالحا طالما قُهر جزائريون ونُكِّل بهم لمجرد أنهم رفعوا أصواتهم مطالبين بذلك. والمحاسبة هي أهم إنجاز يمكن أن يفرح به الجزائريون على المنظور القريب بعد إزاحة رموز النظام الحاكم. نعم بعد التخلص من رموز النظام إلى غير رجعة لأن الاهتمام بالأمور الثانوية قبل الأساسية لن يكون إلا نذير شؤم على ملايين الجزائريين.
منع الفاسدين والمفسدين من السفر إلى الخارج كان أحد مطالب المتظاهرين والناشطين في عمومهم، والشروع في ذلك يمكن أن يكون استجابة لهذا المطلب مع التحفظ على الدوافع الأساسية لهذه الاستجابة، هل هي نية صادقة أم تندرج ضمن لعبة عض الأصابع التي شرع فيها الطرفان المتصارعان منذ أزيد من أسبوع.
لست هنا لأشكك في خطوة قد يأتي من ورائها خير، ولا لأخوض في تفاصيلها القانونية وإشكالاتها، لكني أريد أن أستغل هذا العنوان (الممنوعون من السفر) لأنبه إلى أن هناك أيضا قائمة أخرى أو ربما قوائم أطول من الممنوعين من السفر الذين ينبغي الاهتمام بهم بالتوازي مع قائمة رجال الأعمال ومن معهم من الفاسدين والمفسدين. أعتقد أن أسماء معظم المدرجين ضمن هذه القوائم موجودة هي أيضا في المراكز الحدودية.
هل هؤلاء فاسدون ومفسدون أيضا؟ أغلب الظن أنهم مدرجون في قوائم المنع من السفر لعدة أسباب منها الفساد وأشياء أخرى أخطر كالخيانة وحتى الإرهاب. وما دخل “الخونة” و”الإرهابيين” في موضوع الساعة، وفي وقت يتجه فيه البلد إلى التحرر والانعتاق؟ نعم، الحديث عن “الخونة” و”الإرهابيين” الممنوعين من السفر قد يبدو خارج الإطار لكثير من الناس، ومع ذلك سأصر على القول إن هؤلاء بالنسبة لي هم قضية الساعة، وإذا أراد الجزائريون فعلاً أن يبنوا جمهوريتهم الجديدة فما عليهم إلا أن يضعوا قضية هؤلاء “الخونة” و”الإرهابيين” ضمن أولوياتهم.
ربما موجة الحراك الشعبي شغلت حيزا هاما من بال المتظاهرين ونسوا (أو أريد لهم أن ينسوا) أن هناك مئات، بل آلافا من الممنوعين من السفر في حاجة إلى أن يتم الاهتمام بهم. إنهم ممنوعون من السفر منذ فترات قد تعود إلى عقود. بعضهم منعته السلطات من السفر، وآخرون هم الذين منعوا أنفسهم. وعلى الجزائريين إن أرادوا نجاحا لثورتهم بامتياز أن يتحركوا من أجل تيسير سفر هؤلاء “الخونة” و”الإرهابيين”. لكن الفرق بين رجال الأعمال الفاسدين والمفسدين وبين “الخونة” و”الإرهابيين” هو أن الفئة الثانية ممنوعة من السفر.. إلى الجزائر.
لن تنجح الثورة ولن تتأسس الجمهورية الجديدة على أصل ثابت إذا لم يحضر هؤلاء الجزائريون “الخونة” ويشاركوا (إن شاءوا) في إعداد مرحلة ما بعد الثورة، حتى يكون لشعار “الجزائر يبنيها الجميع” معنى وقيمة. مئات الجزائريين هم الآن محرومون من جوازات سفرهم وممنوعون من العودة إلى بلدهم. قد يكون منهم من هم مجرمون فعلا، لكن نسبة معتبرة منهم يعيشون في “بلاد الغربة” لأن النظام الحاكم قرر ذلك تعسفا وانتقاما منهم على جرائم ارتكبوها بألسنتهم وأقلامهم عندما قرروا الوقوف في وجه الفساد والمفسدين قبل أن تخرج الملايين إلى الشوارع تصدح بذلك.
لا أتكلم هنا فقط عن “المعارضين” بمختلف أطيافهم وانتماءاتهم، بل هناك أيضا القابعون في سجون خارج البلد والنظام الحاكم تخلى عنهم أو رافض لإلحاح الحكومات الأجنبية باستعادتهم. وإذا كان أغلب السجناء من الحراڤة الشباب، فإن “الخونة” الآخرين أفنوا شبابهم بعيدا عن ذويهم ووطنهم لأن الحكام قرروا ذلك بغير وجه حق، والتعجيل بمنحهم حق العودة من شأنه أن يحمل قيمة مضافة لتجربة الانتقال الديمقراطي للجزائر إذا كانت النيات صادقة في أن تكون جزائر الغد حرة وديمقراطية. قد يكون من بين هؤلاء من ارتكب أفعالا يعاقب عليها القانون، لكن هناك آخرين منبوذون لأن الجزائر تسلط عليها أناس يرفضون للجزائر أن ترتفع فيها راية العلم والعمل الصادق، ولا يجدون أي فائدة في أن يكون من بين الجزائريين من يحمل جائزة نوبل!
المقال نشر يوم 01-04-2019