مقالات

عيدية تبون

أعترف أنني بعد طول تفكير عجزت عن إيجاد وصف دقيق يشخص تصريحات وتصرفات وحالة الرئيس عبد المجيد تبون عندما يتعلق الأمر بالحراك الشعبي الذي يهز الجزائر منذ حول كامل. ولست أدري لماذا حضرتني في لحظات عابرة تصريحات معمر القذافي في عز انتفاضة الليبيين، عندما سألته الصحفية البريطانية الإيرانية الأصل كريستيان أمانپور عن تعليقه على المظاهرات الشعبية التي خرجت ضده. في حالة صحو كاذب نفى القذافي وجود أي انتفاضة شعبية ضد، قبل أن يطلق جملته الشهيرة: “شعبي يحبني، كل شعبي يحبني وسيموت من أجل حمايتي“. وكلنا نتذكر باقي القصة. طبعا تبون لم يفعل في شعبه ما فعل القذافي بالليبيين، لكن الصورة الشاملة للمظاهرات الشعبية والتصريحات الرسمية تشابهت عليّ.

شوارع العاصمة ومدن جزائرية أخرى تعج كل ثلاثاء وجمعة بمئات أو عشرات الآلاف من الجزائريين والجزائريات داعين إلى رحيل النظام ورموزه، وفي المقابل يخرج الرئيس تبون في كل سانحة ليمجّد الحراك ويباركه. هل وضع أحدهم على سمع الرئيس وبصره غشاوة تجعله يسمع هتافات المتظاهرين ضده مديحا له ودعما، ويرى اللافتات المرفوعة ضده وضد من فرضه رئيسا باقات ورد وبطاقات حب؟ متظاهرو الحراك مصرون على أن الانتخابات التي جاءت بعبد المجيد تبون رئيسا لم تكن تعبّر عن إرادة الشعب في غالبه، بينما يؤكد تبون على أن مظاهرات 22 فبراير قد آتت أكلها وأسفرت عن انتخابات نزيهة وديمقراطية اختار فيها الشعب من يحكمه بكل حرية. الشعب المتظاهر ينادي برحيل العصابة الحاكمة وتبون يرد عليه بأن رمز العصابة قد أزيح من منصبه وشلته دخلت السجن جميع مطالب الحراك تحققت.

تمنيت لو أن صحفيا من الذين أتيحت لهم أو ستتاح لهم فرصة مقابلة تبون سأله سؤالا واحدا أو اثنين لعل الإجابة عليهما تفك لنا لغز هذا الانفصام الذي نراه أو ربما نتخيله. السؤالان في غاية البساطة ولا يحتملان لفّا ولا دورانا: – هل ترى نفسك يا فخامة الرئيس جزءا من النظام الحاكم الجاثي على صدور الجزائريين منذ الاستقلال؟ وما الذي يجعلك مختلفا عن بوتفليقة، أو لنقل عن أويحيى أو سلال أو حتى بن فليس؟ ألم تكونوا كلكم وزراء ثم رؤساء حكومات مع بوتفليقة ومع من سبقه؟ ألم يكن الجزائريون يعانون ويهانون (ولا يزالون) وأنتم تتدرجون وتتداولون مناصب المسؤولية؟ ألم يكن الفساد مستشريا وأنتم في مناصب المسؤولية؟ ألم تقفوا جميعكم يوما مع ترشح بوتفليقة للرئاسة بعد أن اختاره “صناع الرؤساء”؟ ألم ينقل عن تبون، في ديسمبر 2018 (أي بعد أن صار محسوبا على المغضوب عليهم من طرف آل بوتفليقة وصحبه) رفضه الترشح للرئاسة ما دام بوتفليقة راغبا في الاستمرار، ومما نقل على لسانه قوله: “ما يربطني بعبد العزيز بوتفليقة هي صداقة لا تتزعزع منذ ما يقارب ثلاثين عاما، وما يربطني بالرئيس هو الإخلاص الذي لا يتغير“؟ كل هذا يتنصل منه تبون بين عشية وضحاها وكأنه نزل على الجزائريين يوم 12 ديسمبر 2019 من المريخ. بل لم يجرؤ يوما على التقدم أمام الجزائريين ليقول لهم: (أنا كنت فعلا عنصرا من أزلام النظام السابق وأتحمل مسؤولية كاملة أو جزءا منها، وأنا هنا الآن أعتذر للشعب وأنوي التكفير عن سيئاتي).

وإمعانا في “التقذيف” خرج علينا تبون قبل أيام بمرسوم رئاسي أعلن فيه يوم 22 فبراير عيدا وطنيا على شرف الذكرى الأولى لانطلاق الانتفاضة الشعبية للجزائريين ضد نظام الحكم الفاسد. والحقيقة أنني بعد كل ما سمعته وقرأته عن “الحراك المبارك” توقعت أن ينزل تبون أمس إلى ساحة البريد المركزي بالعاصمة لوضع إكليل من الزهور على درج البريد المركزي ويهتف مع المتظاهرين في الذكرى الأولى لمسيرة الحراك: “مدنية، ماشي عسكرية”، و”الشعب يريد إسقاط النظام”. قد يفعل ذلك العام المقبل، أما هذا العام فقد اكتفى بهدية “العيد” الجديد الذي اختار له من الأسماء “اليوم الوطني للأخوة والتلاحم بين الشعب وجيشه من أجل الديمقراطية“. والحق أنني بسذاجتي تساءلت لماذا لم يسمه “اليوم الوطني للحراك المبارك”، أو “اليوم الوطني لسقوط العصابة”؟ إلا أنه اختار شعار “الأخوة والتلاحم بين الشعب وجيشه” غير منتبه إلى أنه بذلك يكرس الانشطار بين أبناء الجزائر الذين يفترض أنهم جسد واحد لا طبقية ولا فئوية فيه، والجسد مركب من أعضاء متكاملة لكل منها مهامه وحدوده. لكنهم هكذا يريدون للجزائر أن تبقى دوما منقسمة إلى شعب وجيش، شعب منقاد وجيش (أو بالأحرى زمرة) وصية على البلاد تقرر متى تتلاحم ومتى تتآخى ومتى ترافق ومتى تنقلب.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى