مقالات

لا بد من خائن

الكاتب رابح ظريف انتقل إلى السجن بعد أن كان مديرا للمتحف الوطني الجزائري ثم مديرا للثقافة في ولاية المسيلة، وهو تحت طائلة حكم قد يصل إلى عشر سنوات بسبب أنه كتب على صفحته الخاصة في الفايسبوك أن عبان رمضان “أكبر خائن وعميل لثورة التحرير المباركة”، وأنه “باع شرف الثورة”، مؤكدا أن بحوزته الوثائق والأدلة التي تثبت صحة كلامه.

ملاحظة أولى جديرة بالتسجيل قبل التعليق على ما قاله رابح ظريف وما ترتب عنه، وهي أن إقالة مدير الثقافة كانت بقرار صادر عن “وزارة الثقافة”، نعم الوزارة وليس الوزيرة، وهذا وفقا لبيان رسمي بثته الوكالة الحكومية الرسمية. الوزارة (وليس الوزيرة أو أي مسؤول آخر) عاتبت رابح ظريف على “تجنيه على ذاكرة عبان رمضان” الذي وصفته بكونه “أحد الوجوه الكبرى والخالدة للثورة الجزائرية وأحد مهندسي مؤتمر الصومام”.

ما قاله مدير الثقافة المحبوس (حقا في نظر البعض وظلما في نظر البعض الآخر) ليس جديدا وأنا شخصيا أستغرب أن يلقى كل هذه الضجة. لكن دعونا الآن نحاول تفكيك هذه “القنبلة” بكلام بسيط لا يزال الغوغاء يرفضون الخوض فيه.

  • عبان رمضان “مدفون” الآن في مربع الشهداء بمقبرة العالية، إلى جانب الأمير عبد القادر وهواري بومدين وبن بلة وعلي كافي. لا بل إن مصادر أخرى تقول إن ضريح عبان رمضان في العالية إنما هو هيكل فارغ وإن جثة القتيل/الشهيد لا أثر لها.
  • كتب التاريخ الرسمية تعلم التلاميذ أن عبان رمضان مجاهد عظيم وشهيد مشهود، ووزارة المجاهدين في بيان متعلق بهذه القضية تصف عبان رمضان بأنه رمز من رموز ثورة التحرير.
  • الرواية الرسمية تقول إن عبان رمضان “استشهد في ميدان الشرف وهو يخوض معركة ضد القوات الفرنسية”. ومن دون ذكر أية تفاصيل عن ظروف وفاته، اكتفى كتاب منشور في موقع (المتحف الوطني للمجاهد) بالإشارة إلى أن خبر “استشهاد” عبان رمضان جاء عبر خبر نشرته صحيفة “المجاهد” في 27 ديسمبر 1957 على الحدود المغربية الجزائرية.
  • كتاب “متحف المجاهد” منشور في 2009، أي بعد تسع سنوات على الأقل من نشر رئيس الدولة الأسبق علي كافي مذكراته التي أوضح فيها أن عبان رمضان كان ينسج مؤامرة للإيقاع بين قيادات الثورة وأنه كان يقيم “اتصالات سرية مع العدو لم يكاشف بها زملاءه” الذين استدرجوه إلى المغرب “وهناك تمت محاكمته ونفذ فيه الحكم”.
  • اسم عبان رمضان صار مخلدا من خلال إطلاقه على مطار بجاية وقبل ذلك على واحد من أهم شوارع العاصمة.
  • وأخيرا… معروف عن عبان رمضان أنه من أبرز قادة ثورة التحرير، وأنه ابن منطقة القبائل. وكان من الثوار الناشطين ضد الاستعمار الفرنسي داخل الحدود الجزائرية، ومعروف عنه أنه كان يكافح من أجل أن تكون الكلمة العليا في قرارات الثورة لقيادات الداخل، وأيضا أن يكون قادة الثورة العسكريين خاضعين للقادة المدنيين، أو ما يعرف في كتب التاريخ بالعبارة التالية: “أولوية الداخل على الخارج، وأولوية السياسي على العسكري”، وهي العبارة التي أعيدت صياغتها بما تجهر به حناجر متظاهري حراك 22 فبراير في شوارع الداخل والخارج “دولة مدنية، ماشي عسكرية”، أي بالفصيح (الشعب يريد دولة يديرها المدنيون وليس العسكر).

قبل أن أنهي تعليقي، يمكنني التأكيد على أن حبس رابح ظريف وكل البيانات الصادرة ضده لا يمكن أن تقنع ولا أن تجبر الناس على الكف عن اتهام عبان رمضان بالعمالة لصالح المستعمر ولا بالعمل ضد ثورة التحرير. وأرى أن هنالك حلين لا ثالث لهما لوقف هذا الجدل (ومثله كثير).

الأول: أن يفصل الخطاب الرسمي نهائيا في قضية عبان رمضان. هل هو مجاهد وثوري وبطل وزعيم من زعماء حرب التحرير الجزائرية، أم كان خائنا وعميلا ومخربا؟ إذ أنه من غير الممكن أن يستمر جيل الاستقلال في تلقي خطاب غامض بل متناقض حتى لا أقول منافق. ذلك أن خلاصة الخطاب السائد اليوم هو أن عبان رمضان (شهيد ورمز من رموز ثورة المليون ونصف المليون شهيد وقد قضى نحبه خنقا على يد زملائه الشهداء وقادة ثورة التحرير). لا بد قبل الاستمرار في محاكمة رابح ظريف أن تفصل السلطات الرسمية وكل الجهات المعنية في تنوير القضاة الذين سيحكمون في القضية بأن يبينوا إما أن عبان شهيد ورمز من رموز ثورة التحرير وأنه قتل في ساحة الوغى، أم أنه خائن وعميل حكم عليه زملاؤه بالإعدام ونفذوه بأيديهم. لا بد من رواية واحدة لا يكون فيها التناقض الغبي الذي نعرفه الآن، وتبعا لذلك لا بد من قرارات لاحقة قبل النطق بالحكم ضد رابح ظريف. فإذا كان عبان خائنا فلا بد من تطهير كتب التاريخ ومحو اسمه من الذاكرة الإيجابية للجزائريين والعثور على اسم جديد لمطار بجاية وللشوارع التي تحمل اسم هذا “الخائن”. أما إذا كان شهيدا، فحينها لا بد من “خائن” جديد أو “خونة” لملء الفراغ، وهذا الخائن أو هؤلاء الخونة هم بطبيعة الحال أولئك الذين غدروا بالشهيد وحاكموه وحكموا عليه بالإعدام ونفذوا فيه الحكم من دون أن تكون لهم الشجاعة الكافية لتحمل مسؤولياتهم وإخبار الجزائريين بفعلتهم الشنيعة. وهنا أيضا لا بد من البحث عن أسماء جديدة لمطار تيارت مثلا ولساحات وشوارع ومؤسسات عمومية أخرى، على أن تضاف مهمة جديدة لوزير التربية الجديد وهي مراجعة شاملة لكتب التاريخ وتصفيتها من شوائب التناقضات على الأقل في ما يتعلق بحالة عبان رمضان.

أما إذا استعصى هذا الحل على أهل الحل والعقد، فأعتقد أن هناك حلا بديلا واحد فقط، وهو أن نضيف للجزائريين جرعات أخرى من التجهيل حتى ينسى الشعب والأجيال القادمة أن الجزائر عرفت يوما ما ثورة تحريرية وتزول كل أسماء القادة والزعماء التاريخيين من الذاكرة الجماعية، وعند الواحد الأحد تجتمع الخصوم.

قضية رابح ظريف، أو لنقل قضية عبان رمضان ليست إلا واحدة من عشرات الأكاذيب التي لغمت بها عقول شباب الجزائر، ولن أذكر هنا إلا واحدة أخرى هي قضية إعدام عقيد الثورة محمد شعباني عام 1964بقرار من رئيس الجزائر آنذاك أحمد بن بلة.

أما إذا رفضتم هذين الحلين، فلا خيار إذن إلا أن يطلق سراح رابح ظريف في أقرب وقت، ويصدر قرار في الجريدة الرسمية للحكومة الجزائرية بإطلاق تسميات جديدة للمتشابه من قادة الثورة والمجاهدين، على شاكلة (الشهيد الخائن)، أو (الشهيد العميل)، أو (المجاهد الخائن). وللآخرين في الجانب المقابل (الشهيد المجرم)، أو (المجاهد القاتل)، إلى ذلك من الأوصاف التي أراها أكثر إنصافا لتاريخ البلد وأسهلها إسهاما في نزع فتيل التوتر والخلاف حول قضايا تاريخية ساهمت في تجهيل الناس وتحميلهم بأحقاد الجاهلية الأولى.

اظهر المزيد

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى