مقالات

للمزابيين فقط!

ترددت بعض الشيء في التعليق على خبر تعيين إبراهيم بوغالي رئيسا للمجلس الوطني الجزائري؛ أولا لأنّ من عادتي أن لا أخوض كثيرا في مسائل قد يراد لها أن تكون سياسية، لكنها في الحقيقة مجرد تهريج واستهزاء بالذكاء البشري، وثانيا لأن من أصبح الآن رئيسا للبرلمان الجزائري هو واحد من أعزّ أصدقائي عرفته من أيام الجامعة -بداية الثمانينات- واستمرت العلاقة الأخوية بيننا خلال سنوات الدراسة وبعدها. أما ما أجده يجرني إلى كتابة هذه الأسطر فله علاقة أكثر بخلفية إبراهيم بوغالي، وأقصد هنا تحديدا المنطقة التي ينحدر منها، منطقة واد مزاب.

مزابي، يصل إلى درجة “الرجل الثالث في الدولة”. هذا يحدث لأول مرة في تاريخ جزائر عهد الاستقلال، مثلما أنها أول مرة يتولى رئاسة المجلس “الشعبي” الوطني نائب مرشح ضمن قوائم الأحرار. هل علينا أن نستغرب أم نستنكر؟ بل لماذا علينا أن نتوقف عند هذه الجزئية، وكأن المزابي كائن كُتب عليه أن يظل محل تعليق حيثما حلّ؟ ليس هنا موضع الإسهاب في “إشكالية” المزابي وسط المنظومة الجزائرية، فالكلام حول ذلك يطول وأنا متأكد أنه مهما قيل فإنه لن يغيّر من حال الواقع ولا من قناعات كل واحد شيئا. المزابي سيظل في الوعي الجمعي للمزابيين “أفضل خلق الله”، أو لنقل من أفضلهم وأحسنهم خُلقا وأدبا وعلما وجِدا واجتهادا؛ بينما يبقى في نظر الآخرين متأرجحا بين باقة من الصور النمطية تبدأ بتلك التي تراه “ناس ملاح” وتنتهي بتلك التي تصنفه تارة “خوارجيا” وطورا قريبا من “اليهودي!”. أي في كل الأحوال، هو ليس إنسانا عاديا مثل باقي الجزائريين.

ومن يتحمّل مسؤولية أن يظل المزابي طيلة هذه الفترة مختلفا (سلبا أو إيجابا) عن باقي المجتمع الذي ينتمي إليه؟ قبل نحو ثلاثين عاما قابلت الرئيس الراحل أحمد بن بلة في بيته بالجزائر العاصمة، في إطار مقابلة صحفية، ولما علم أنني منحدر من المنطقة قال لي كلاما فيه اعتراف بضلوع النظام -الذي كان يرأسه- في تفتيت المنظومة الاجتماعية لبني مزاب. لم يكن ذلك سرّا، لأن “المخطط” استمر بعده لسنوات وعقود، لكن هذا لا يدفعنا إلى أن نعفي المزابيين أنفسهم من مسؤولية ما آلت إليه أحوالهم. هذا موضوع يطول تفصيله، وأكتفي هنا بالإشارة إلى أن لأبناء واد مزاب نصيب في “العزلة” التي هم عليها، فقد كانت تلك رغبة تربوا عليها جيلا بعد جيل، وأنا هنا لا أتحدث عن تصرفات أو سلوك فردي بل عن سياق عام كانت له مبرراته في عهود سابقة، لكن الذين تولوا مقاليد قيادة المجتمع بعد ذلك أضاعوا البوصلة وحرصوا على التمسك بدفة المركب من دون أن يكترثوا للتطورات الحاصلة بين ركابه ولا بما يحيط بهم. فصار حالهم يشبه حال الذي يقود مركبة شراعية في محيط هائج يعج بالبواخر التجارية والحربية، معرضين بذلك “فلوكتهم” وركابها وأنفسهم لأخطار داهمة لا محالة.

أعترف أن الموضوع متشعب، والدليل أنني أجد نفسي منساقا في متاهة لا علاقة لها بموضوع إبراهيم بوغالي ووصوله إلى قمة هرم الدولة.

قرأت نزرا قليلا من تعاليق المزابيين عن هذا الحدث، وكان طبيعيا أن ينقسموا في جلهم إلى فئتين، واحدة تهلل وتستبشر خيرا بالفتح المبين، وأخرى ترى أن ذلك قد دشّن رسميا قناة “عمالة” أهل مزاب للنظام الحاكم، فصار لهم أشخاص من طينة أحمد أويحيى وكريم يونس ورمطان لعمامرة المنسوبين إلى ما يعرف بفئة (الكاديآس).

المهللون، أو على الأقل الراضون بوصول مزابي إلى رأس البرلمان يرون أن تلك فرصة لا يمكن تفويتها أو رفضها لعدة أسباب أهمها أنها تضع حدا لتهميش طال أمده وأن المزابيين سيجدون من الآن فصاعدا “ملجأ” آمنا يذود عن حياضهم في حالة ما إذا تعرضوا مستقبلا للاعتداءات الهمجية التي كانت تطالهم من بعض “الرعاع” بشكل دوري٫ أما الذين قفزوا بعيدا في التفاؤل فقد رأوا أن ما حصل إنما هو تصحيح لسياسة ظالمة وأن المزابيين قد استعادوا حقوقا مستحقة وقد أعيد لهم الاعتبار.

المزابيون فعلا عرضة لكثير من التهميش والتجاهل، حالهم مثل حال غالبية الجزائريين، لكن الخوف كل الخوف أن يصدقوا أن التاريخ جاء أخيرا لينصفهم. فذلك سيجعلهم كمثل الذي حُرم طيلة حياته من قطعة لحم يشتهيها، فلما توفرت له انقض عليها ليتبين بعد حين أنها كانت مسمومة لكنه لم ينتبه إلى ذلك.

قد يقول البعض إن الموضوع قد أخذ أكثر مما يستحق، وربما لا يزال آخرون يعتقدون أن الكلام عن مثل هذه الأمور في الفضاء العام محرّم؛ بينما قد يقول غيرهم إنه وقت مناسب أو حتى متأخر للخوض في مسائل مسكوت عنها وهي تنخر المجتمع من الداخل. أما أنا فلا أجد تفسيرا آخر غير أن عزوفي عن طرح مثل هذه المواضيع يصطدم أحيانا برغبة جامحة في الكتابة وهذا ما حصل معي اليوم.

أما لصديقي العزيز إبراهيم بوغالي فأقول، لا ألومك ولا أناقشك حتى في خيارك، فأنت على درجة مشهود لها من الذكاء والوعي. لكن لو كان الأمر بيدي لقلت لك: يكفي أن تتذكر أن الكرسي الذي تجلس عليه قد سبقك إليه معاذ بوشارب وسليمان شنين، وهذا وحده يكفي لأن تدرك أن ذلك المنصب لا يصل إليه الناس بعلمهم ولا بجدارتهم ولا حتى بإرادتهم. قد تكون مدركا لذلك لأنك لم تتخلف، في أول كلمة لك يوم تنصيبك، عن التأكيد على أن مهمتك الأساسية ومهمة “المجلس الموقّر” هو أن تسخروا أنفسكم لخدمة فخامته وتجسيد برنامجه. وكل أملي أن تتوفر لكم القدرة على جمع شتات أفكار فخامته وتتبينوا خيوط هذا “البرنامج المبارك”.

اظهر المزيد

تعليق واحد

  1. أوافقك الرأي أخي فيما حمله من أمل للبعض و بغضا ربما للبعض الأخر، لكن بدون إنقاص من كفاءات الشخص الذي لا أعرفه شخصيا، ماذا إن رؤي هذا الحدث كونه لا حدث، إلا على صاحبه ربما؟ لأن إثقاله برمزية لصالحٍ أو لآخر قد يكون تأويلا غير موضوعيا و لا واقعيا بخلفيات ذاتية لا أساس لها إلا في أذهان قرّاء هذا الحدث بطريقة أو أخرى. .. أرى أننا خرجنا منذ أمد بعيد من قراءات عرقية متحيزة، فلا الأشخاص تمثل من نعتقد و لا الأفراد ترى أنها ممثلة من يفترض. تطورت مجتمعاتنا بخاصياتها الإيجابية والسلبية لكن لم تعد القراءات القديمة سواءً مؤيدة أو منددة تخضع للركائز والخلفيات البدائية المعروفة. فلا مزاب هو على ما كان و لا المزابي هو على ماكان و لا غير المزابي هو على اعتقاداته و لو هناك ما تبقى. دخل مزاب في المجتمع الوطني و ساهم بنفسه في تحويل مؤسساته إلى لوحات فنية يرجع إليها في مهرجانات و حفلات من جهة و تقبل المجتمع الكبير التراث المزابي أكثر لا نضجا بل مللا من نظمه و قياده بعد سنين من عقم و تحايل و احتيال…. لكن هذه قصة اخرى!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى