محاولات يائسة وبائسة لتأسيس أحزاب جديدة في جزائر بوتفليقة

دشن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يوم الأحد الماضي عهده الجديد القديم تحت شعار (التغيير في ظل الاستمرارية) وتحدث عن مشاريع اقتصادية واجتماعية لفترته الرئاسية الثالثة، وتحاشى بالمقابل، في خطاب اليمين الدستوري، أي خوض في الشق السياسي الذي يبقى واحدا من أهم مظاهر الأزمة الضاربة في الجزائر منذ استقلال البلد. صعب على بوتفليقة أن ينسلخ من القالب الذي انصهر به في عهد الرئيس بومدين ورغم تأكيده في أكثر من مناسبة أنه محسوب على التيار الليبرالي في السبعينات إلا أن السنوات العشر التي قضاها رئيسا للجزائر أثبتت أنه لا يؤمن بشيء اسمه سلطة الشعب أو حق الشعب في اختيار السياسات التي تليق به، بل كان كل همه هو أن يستعيد حقه (المغتصب) في أن يصبح رئيسا للجزائر وأن يبقى وفيا للذين أعادوا له هذا (الحق) بعد عشرين سنة من الإقصاء والإقصاء الذاتي.
بوتفليقة ورث عن سابقيه دستورا وواقعا فيه شيء من الديمقراطية السياسية (وإن كانت مزيفة)، وقد أبدى عدم اعتراف بذلك وقفز على الدستور على ما فيه من عيوب، لينتهي به المطاف إلى تعديل دستوري يبقيه في الحكم مدة أطول على أن يكمل المسيرة بتعديل دستوري جديد يكرسه ملكا على الجزائر في ثوب رئيس. بوتفليقة يريد أن يكون رئيسا لا ينازعه في ملكه أحد، لا أحزاب سياسية ولا برلمان ولا مجتمع مدني ولا إعلام حر ولا حتى منظمات دولية تنتقده، وقد نجح في ذلك ولقي دعما وسندا من دوائر صناعة القرار ومن الطبقة السياسية والجمعيات والنقابات المرتشية. رئيس الجمهورية الديمقراطية الشعبية لا يريد أن يسمع صوتا ناشزا ولا رأيا مخالفا ولا حتى توجيها أو نصيحة من أحد، الحقيقة هي التي يقولها هو والصواب هو الذي يخرج من فمه هو وحتى الانتقاد يجب أن يصدر عنه هو وحده، فقد قال قبل عام بعظمة لسانه إن الطريق الذي سار عليه خلال تسع سنوات من حكمه لم تكن تؤدي إلى الجنة وصفق له المصفقون ثم سارعوا إلى دعمه للبقاء في الحكم مع أنه في الواقع لم يكن يحتاج إلى دعم كل تلك الجموع ما دام ظهره مستندا إلى الحائط القوي.
ولعل من غريب مفارقات السياسة أن تكون الأحزاب في الجزائر هي التي تلهث وراء الحاكم وتطلب وده ورضاه بدل أن يحدث العكس. أحزاب الجزائر، مع الاستثناء المعروف، لا تستطيع أن تقرر شيئا مصيريا قبل أن تستشير أولي الأمر أو تتلقى أوامر منهم. فهي لا تقدر حتى على إصدار بيان يتعلق بقضية خلافية بسيطة دون مراجعة صاحب الشأن، فكيف لها أن تقرر من يكون مرشحها لانتخابات الرئاسة؟ ولعل الجزائر هي أيضا البلد الوحيد الذي تجتمع فيه الأحزاب السياسية على قلب رجل واحد، أحزاب تقول إنها أحزاب شعبية وعتيدة وكبيرة تعجز عن التنافس بينها في أهم انتخابات، أحزاب تغرف المليارات من المال العام لتتسابق بينها حول من يحسن أكثر فن التملق والخنوع والانبطاح. هذه الأحزاب والتنظيمات السائرة في فلك الحكم تعلم جيدا أنها لو جمدت نشاطها أو سلكت طريقا آخر غير طريق التزلف فإن ذلك لن يؤثر شيئا في مسار الأحداث في الجزائر، فالرئيس لن يكون أحدا آخر غير بوتفليقة أو من تختاره دوائر صنع القرار، والبرلمان لن يصل إليه غير الذين تريدهم السلطة أن يكونوا فيه وبالنسب التي تحددها هي، كما أن التعيينات في الحكومة وفي باقي مناصب الدوائر الحكومية ليست لها علاقة بقوة هذا الحزب ولا بمدى انتشاره في الميدان ولا بدرجة شعبيته، الأحزاب والتنظيمات الأخرى تعلم ذلك جيدا ولا تجادل أبدا في مثل هذه المسلّمات، بل كل ما تسعى له هو أن تبقى السلطة الفعلية راضية عنها ومرضعة لها. وإذا ساور أحدا شك في ذلك فليسأل هذه الكيانات ماذا فعلت لترفع الغبن والظلم والذل عن الشعب وماذا عملت ليتقلص الفساد في البلد؟ لا شيء، لأن دحر الفساد أو تقليص دائرة نفوذه يعني بالضرورة زوال هذه الكيانات واندحارها.
وأمام هذا الوضع لا يملك المرء إلا أن يستغرب وهو يقرأ ويسمع أناسا يتكلمون عن مساع لتأسيس أحزاب سياسية في الجزائر. لماذا؟ لتغيير الوضع القائم أم لتقاسم الريع بكل أشكاله؟ مرشح الانتخابات الرئاسية الأخيرة محمد السعيد أعلن في سياق العرس الانتخابي أنه يسعى لتأسيس حزب سياسي جديد بديل عن حزب الوفاء الذي كان ضمن مؤسسيه لكن إدارة بوتفليقة رفضت الترخيص له، وملفه لا يزال عالقا في أدراج وزارة الداخلية منذ قرابة عشر سنوات. فما الذي تغير حتى يبدأ محمد السعيد محاولة ثانية؟ هل هو الملل من حياة التقاعد أم لعله وعد زائف تلقاه من جهة ما أوعزت له أن يتحرك في مغامرة فاشلة؟ في الجزائر ما يكفي من أحزاب التملق والتزلف والانبطاح وبوتفليقة ليس في حاجة إلى أحزاب يمكن أن تنغص عليه راحته. المرشح الحائز على المنصب ما قبل الأخير في انتخابات 9 أبريل هو وحده الذي يملك جوابا عن السبب الذي جعله يخرج من دائرة الحظر المفروضة على الحركة التي أسسها رفقة وزير الخارجية الأسبق الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي ويقرر المشاركة في انتخابات يعترف هو نفسه أنها محسومة سلفا وأنه لا ينتظر منها شيئا وأن فرص فوزه بها تساوي صفرا. وما هو الشيء الذي تغير في الجزائر حتى يعتقد أن هناك احتمالا واحدا يجعل بوتفليقة يرخص له بإنشاء حزب سياسي مستقل؟ مجموعة أخرى من المنشقين على رئيس حركة مجتمع السلم أبوجرة سلطاني أعلنت هي أيضا أنها هجرت الحزب لتأسيس تنظيم جديد ومن بين الأسباب التي قدمتها مبررا لإقدامها على هذه الخطوة اتهامها لوزير الدولة سلطاني ببيع الحزب بطريقة مكشوفة. الجماعة لم تخطئ في ما ذهبت إليه، فالحزب المحسوب على التيار الإسلامي (مبيوع) بطريقة أكثر من مكشوفة ولم يعد لبقائه أي مبرر غير مبرر الارتماء في أحضان السلطة والاستفادة من الريع بكل أشكاله وأنواعه. ويكاد المرء يرفع تحية لهذه الجماعة المنشقة ويعلن دعمه لها ويبارك خطواتها، لولا أن هناك بعض الحقائق الثابتة. فالحزب لم يكن يوما خارج فلك السلطة حتى يقال إنه صار يدور في فلكها، فقد كان من أهم ركائز النظام القائم في البلد منذ عهد مؤسسه الراحل محفوظ نحناح وكل الفرق بين ذلك العهد وعهد سلطاني هو تغير اسم المشرف على الحزب. في عهد نحناح كان المنشقون الجدد ضمن قيادة الحزب ومنهم أعضاء في الحكومات المتعاقبة كما كانوا في عهد سلطاني الأول ضمن قيادات التنظيم، وحتى لا يسارع البعض إلى الاعتقاد أن مساندة سلطاني لترشيح بوتفليقة لفترة ثالثة هي سبب قرار المجموعة الخروج عن بيت الطاعة لا بد من التذكير أن أكابر هؤلاء أعلنوا منذ بداية تمردهم أنهم مع بقاء بوتفليقة في السلطة ولا شيء تغير في ما يتعلق بهذا الخيار، تفاديا لأي سوء فهم. يبقى السبب الرئيسي في خلافهم مع زملائهم القدامى هو صراع داخلي في التحكم في زمام الحزب لا أكثر، وقد خاض المنشقون حربا قوية من أجل تعيين مرشحهم في مؤتمر خلافة الراحل محفوظ نحناح وصبروا على مضض لمحاولة إسقاط سلطاني في المؤتمر الأخير ولما فشلوا ويئسوا اهتدوا إلى فكرة تأسيس تنظيم لعلهم يخرجون به من دائرة التهميش والبقاء تحت رحمة خصومهم في الحزب. لكن هل هؤلاء المنشقون مقتنعون هم أيضا أن هناك احتمالا واحدا من المليون بأن وزارة الداخلية ستعترف بتنظيمهم وترخص لهم بالنشاط رسميا؟ أم أنهم فقط يريدون البقاء تحت أضواء الإعلام حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا؟ ولو أن النظام شك ذرة أن الجماعة المنشقة ستقدم خدمات أفضل مما يقدمه سلطاني الآن لبادر إلى تنظيم انقلاب داخل الحزب كما فعل في السابق مع أحزاب أخرى، لكنه يعلم أن ولاء هؤلاء وهؤلاء متكافئ وأن الخلاف هو فقط حول من يكون في المقدمة ويكون متحاورا مع النظام ويسيطر على توزيع الريع، لذلك فإن الأرجح هو أن يستمر النظام في رفض تنويع مصادر امتصاص الريع لأن ذلك سيفتح عليه أبوابا هو في غنى عنها. فالنظام يحتاج إلى حزب من التيار الوطني وإلى آخر من التيار الديمقراطي وثالث إسلامي حتى يتحرك في جميع المجالات ويمرر مخططاته في كل الاتجاهات، أما ما عدا ذلك فيبقى من قبيل (زيادة الخير)، لكن دون المغامرة بتوسيع الخارطة السياسية مهما كانت موالية.
بوتفليقة يريد كرسي الرئاسة وقد حصل عليه من أقصر الطرق وأضمنها، وهو بذلك لا يريد أحزابا تسانده ولا شعبا يعتمد عليه، فالشعب لا صوت له ولا مكان في ظل انتشار التملق والنفاق السياسي والأحزاب والتنظيمات الأخرى تبقى واجهة، كما كانت منذ الأزل، وما دام الجميع راضيا فلماذا الخوض في تفاصيل أخرى لا فائدة منها؟
المقال نشر يوم: 22-04-2009