مقالات

الثعلب والغراب

انشغلت لأيام وفاتني الخوض في بعض المسائل التي كانت محل نقاش وتجاذب بين الجزائريين. لن أعود إليها جميعا، بل أكتفي بواحدة وهي الجدل الذي أعقب زيارة الرئيس التركي إلى الجزائر. القصة صارت معروفة، أردوغان صرح أنه طلب من نظيره الجزائري تزويده بوثائق عن خمسة ملايين جزائري قال تبون إن فرنسا قتلتهم خلال الحقبة الاستعمارية. بعدها ردت الخارجية الجزائرية بما معناه أن ما فعلته فرنسا في الجزائر يبقى مسألة “عائلية” ولا حق لأحد في التدخل في مثل تلك التفاصيل.

تعليقات ومقالات كثيرة كتبت حول هذه الواقعة، جاء في بعضها لوم للرئيس التركي على انتهاكه لقاعدة “المجالس أمانات”، بينما لام البعض الآخر الطرف الجزائري على ما ظهر أنه “خوف” من فرنسا وتضييع لفرصة قد تدفع نحو إجبار فرنسا على الاعتراف بجرائمها في الجزائر ومن ثم تقديم اعتذار رسمي، كما رأى آخرون أن الذين قرروا إصدار رد علني على تصريحات أردوغان أخطأوا التقدير وكان عليهم أن يكتفوا على الأقل بالصمت وترك تصريحات أردوغان غصة في حلق فرنسا الرسمية إلى حين. أما الذين أرادوا التهويل، وهم الواقعون في خلاف مع تركيا، فقد استغلوا بيان الخارجية الجزائرية وسارعوا إلى اتهام أردوغان بتحريف كلام الرئيس الجزائري.

لعل من بين النقاط الإيجابية لهذا الجدل اطلاع الجزائريين (لأول مرة) أن هناك “جهودا تبذلها الجزائر وفرنسا” من أجل حل مخلفات الحقبة الاستعمارية وتفكيك الألغام الملتصقة بالذاكرة الوطنية. وليت الإعلام في الضفتين يستغل هذا التصريح لينقل للرأي العام بعض تفاصيل هذه “الجهود” المبذولة بين الجانبين لإعادة قضية الاستعمار الفرنسي للجزائر إلى سياقها الصحيح والتعامل معها على أسس عادلة ومنصفة. غير أن ما أخشاه هو أن الطرف الجزائري يريد، من خلال إسراعه إلى الرد على تصريحات أردوغان، مساعدة الفرنسيين على إعادة المسألة إلى درج النسيان اعتقادا منه أن عدم التطرق إلى مثل هذه المواضيع هو أفضل جهد لحل إشكالاتها. وما يعزز هذا الاعتقاد هو أن الخارجية لم تقل إن الجزائر تنوي حل هذه المسألة الحساسة جنبا إلى جنب مع الطرف المعني بها فقط وهو فرنسا، بل تحدثت عن “جهود مبذولة”. وهذا يعني أن الأمر لا يتعلق بخطة عمل ضمن خطة “الجزائر الجديدة”، بل هي سابقة لهذا العهد ولا ندري هل هي جهود بدأها بوتفليقة أم تعود إلى عهد بن بلة مثلا أو بومدين أو غيرهما. وما أراه هنا هو أن من حق الرأي العام الجزائري أن يعرف ما يجري حقا حول هذا الموضوع حتى يطمئن إلى أن الأمر جاد فعلا.

غير مفهوم لحد الآن ما هو “السياق” الذي تحدث فيه تبون عن مقتل خمسة ملايين جزائري من طرف فرنسا، لكن الواضح هو أن الرئيس الجزائري يحتاج إلى ترقية خبرته في الإدراك السياسي والعمل الدبلوماسي، وعليه أن يسارع إلى ذلك قبل أن يواصل رحلاته إلى الخارج أو استقباله للوفود الخارجية حتى لا يسقط في فخ مماثل للذي “نصبه” له أردوغان. اللوم أيضا هنا على مستشاري الرئيس وعلى المسؤولين في الخارجية الذين لم ينبهوا تبون إلى وجود حرب معلنة بين تركيا وفرنسا محورها قضية “إبادة الأرمن”، لذا فإن عليه أن يتفادى الخوض في أي كلام يمكن أن يستغله أردوغان لضرب فرنسا. وإذا كان الرئيس التركي قد “أخرج تصريح تبون من سياقه”، فإن هذا الأخير قد “أخطأ التقدير” هو الآخر عندما أدلى بذلك التصريح، خاصة إذا كان يعتقد أن بإمكان الرئيس التركي تقديم مساعدة للجزائر في هذا الخصوص. فما كان على الرئيس الجزائري أن يجهل أو ينسى أن أردوغان “ثعلب سياسي” بامتياز، وأن ما يهمه في نهاية المطاف هو كيف عليه أن يحافظ على منصبه وأن يخدم مصالح بلده أولا وقبل كل شيء. أما قضية “شهداء الجزائر” فلن تكون له إلا سلاحا أو ورقة سياسية إضافية يخرجها ضد خصومه، تماما مثلما فعل في قضية مقتل خاشقجي أو الثورة الشعبية في سوريا.

وأختم هنا بالعودة إلى حكاية الخلاف الجزائري الفرنسي حول مسائل “الذاكرة الوطنية” لأنبه إلى أمر تأكدنا منه طيلة العقود الماضية. وحتى يثبت العكس، فعلى الشباب الجزائري أن يتأكد أن حكامهم لم يكونوا يوما مهتمين بحل “الخلاف التاريخي” مع الفرنسيين. لماذا؟ لأنهم وجدوا فيه ورقة يلهون بها شعبهم ويشغلونه عن أمهات القضايا. وقد كتبت يوما أن حكام الجزائر يتعاملون مع فرنسا مثلما يتعامل البشر مع “نار الشتاء“، وكل همهم هو أن يبقى الشعب يحمل دوما ضغينة وحقدا على فرنسا بينما هم يتوددون إليها واقفين مثل الحجاب الحاجز بين الطرفين يمتصون أكسجين بقائهم على عروشهم من هذا “الخلاف”.

أما للذين يصدقون أن هناك نية لدى حكام الجزائر في انتزاع اعتراف واعتذار من فرنسا الرسمية، فأقول لهم لا تحلموا بتحقيق إنجاز مثل هذا الآن. وإذا كنتم تريدون فعلا تحقيق هذا الحلم فعليكم أولا حل قضية أساسية أخرى وهي تصحيح تاريخ الثورة التحريرية وتنظيفه من كثير من الشوائب التي تستغلها فرنسا من جهتها للضغط على “أصدقائها” في الجزائر، وعلى من يشك في ذلك أن يرى كيف سارع الرسميون في الجزائر إلى الرد على تصريح أردوغان.

اظهر المزيد

تعليق واحد

  1. ماهي الجبنة ؟ أخي خضير أصبت في عناية سياسيون الجزائر في نار الكره و الحقد بفرنسا حتى لا يشتغل الجزائريون بأمور دولتهم الداخلية و لو كان لا يمكن أن تظل كل الناس في كل وقت كمايقول المغني. لكن هل يمكن أنه صرح الرئيس المزعوم الجزائري بما فعل لانه على علم أن أردوغان سيستغل هذه المعلومة ليوقع بين تركيا و فرنسا؟ لكي تري الجزائر لفرنسا انها هي كذلك تستطيع اللعب بوسائلها على حدودها المعنوية… أرى ألعوبة جزائرية تركية لأهداف أمنية جزائرية بعدما أحيطت الجزائر بعملاء اسرائيل على كل حدودها…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى