ارشيف القدس العربي

العيش موتا في بلد العزة والكرامة

أخبار عابرة تتداولها الصحف المحلية في الجزائر عن حركة احتجاجية لمجموعة من الأساتذة يطالبون بمنحهم عقود عمل دائمة بعد سنوات قضوها يشتغلون بعقود مؤقتة. قبل شهر دخل ثلاثون من هؤلاء الأساتذة في إضراب جوع وآخر الأخبار (العابرة) عنهم تفيد أن حالة كثير منهم وصلت درجة الخطر وأن اثنين من المجموعة حاولا تقريب أجلهما بتناول شراب سام. هؤلاء الأساتذة حاولوا مع متعاطفين معهم تنظيم مظاهرة احتجاجية أمام مقر وزارة التربية والتعليم في العاصمة الجزائرية لكن قوات مكافحة الشغب منعتهم من خرق حظر التظاهر المفروض على العاصمة منذ سبع سنوات كما منعتهم بحزم من التجمهر أمام قصر الرئاسة. الحركات الاحتجاجية تقابل دائما في الجزائر بتجاهل وغالبا بقسوة، فالسلطات هي وحدها التي تعلم ما يليق بهذه الفئة أو تلك من فئات الشعب وهي لا تنتظر من أحد أن يحتج على ما قسمته له. وهي التي قررت، في حالة الأساتذة المضربين، أن توظفهم بعقود مؤقتة عندما كانت المدارس خاوية من الأساتذة بسبب موجة الاغتيالات التي شنتها الجماعات الإرهابية خلال سنوات الجحيم ضد أسرة التعليم، وهي التي رأت الآن أن دورهم انتهى وعليهم أن يبحثوا عن عمل آخر وينسوا أنهم كانوا يوما ينتمون إلى قطاع التربية والتعليم. وطبعا، عندما تقرر الحكومة شيئا فإن التوابع لا يملكون إلا أن يباركوا أو في أسوأ الأحوال أن يسكتوا، فلا النقابة الوحيدة المعترف بها (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) تتحرك ولا الأحزاب الممثلة في الحكومة والبرلمان تقول شيئا، أما التلفزيون والإذاعة الحكوميان (لا وجود لغيرهما) فهما منشغلان بأسفار فخامة الرئيس وتنقلات معالي الوزراء إلى هنا وهناك ولا ندري متى يأتي اليوم الذي تهتم فيه هاتان الوسيلتان بأحوال الشعب الذي يدفــع رواتب موظفيهما من الضرائب المفروضة عليه.

الأساتذة المضربون عن الطعام على حافة الهلاك، كما تفيد التقارير، وكثير منهم ومنهن أيضا (نعم هناك نساء تركن أولادهن وبيوتهن للمشاركة في الاعتصام الجماعي) فقد من وزنه عدة كيلوغرامات ومنهم من سجل نسبا قياسية في انخفاض ضغط الدم والسكر ولا أحد من المسؤولين يريد أن يستمع أو يستجيب لمطالبهم. وآخر الأخبار تقول إن وزير التربية وعميد الوزراء الجزائريين سافر إلى فرنسا لإجراء فحوص روتينية على.. عينيه، نتمنى أن يصحح له أطباء فرنسا نظره حتى يتمكن من رؤية هؤلاء الأساتذة وأذنيه أيضا حتى تصله صرخاتهم. هذه ليست إلا أمنية طامع في الارتواء من سراب الصحراء، لأن حكومة الجزائر الموقرة لا تبدي في الواقع أي استعداد لسماع صرخات شعبها، ولا أي تعاطف مع حال غالبية الشعب المقهورة.

القوة أمام الشغب

وإذا مات هؤلاء الأساتذة أو بعضهم أو أحدهم، لا قدّر الله، ماذا سيحدث؟ لا، لا تفكروا كثيرا، فلن يحدث أي شيء، لن يهتز عرش الحكومة ولن ينتفض الشعب ولن تسقط شعرة من رأس وزير التربية الخالد المخلد في منصبه منذ عهد الرئيس بوضياف. إذا مات أحد من هؤلاء الأساتذة المضربين عن الطعام فلا أحد يتحمل مسؤولية ذلك سواهم، نعم، لأن لا أحد أجبرهم على الصوم القاتل وهم يعلمون علم اليقين أن الحكومة الموقرة محصنة ضد أي احتجاج أو استياء. الحكومة الجزائرية تعلمت أن تكون قوية الشخصية، لا مكان عندها للعواطف ولا لبكاء الشعب، هي تعرف ما يليق بشعبها وما لا يليق ووفق ذلك تقرر ما تريد ولا مجال لها للتراجع. تخيلوا لو قررت الحكومة غدا أن ترق لحال هؤلاء الأساتذة المشاغبين وأن تتنازل لتلبية مطالبهم، كيف سيصبح البلد؟ إذا رضخت الحكومة الموقرة لمطالب هؤلاء الأساتذة فإنها مضطرة للنزول عند رغبة آلاف أو ملايين العاطلين عن العمل وآلاف العمال الذين لا تكفيهم رواتبهم لإطعام أهاليهم وملايين الشباب الذين ينشدون حياة كريمة تفتح أمامهم أبواب الأمل والبحث عن مستقبل آمن. لو أغمضت الحكومة لحظة واحدة عينها الحمراء التي تشهرها أمام شعبها العزيز لسقطت هيبتها وتحولت لقمة سائغة تلوكها الأفواه. لأجل ذلك وغيره فإن الحكومة صامدة وجاثمة على صدر شعبها، ولتختنق الأنفاس إن شاءت. لا يهم أن يموت أستاذ أو أستاذان أو حتى ثلاثون، ولا يهم أن يغرق في البحر مئة شاب أو حتى ألف من الهاربين على قوارب الموت إلى أوروبا، ولا يهم أن يحتج من يحتج، في الداخل أو في الخارج، لأن الحكومة تحكم قبضتها على الحياة السياسية والنقابية وترفض الترخيص لأحزاب ونقابات تغرد خارج القفص ولسان حالها يردد (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).

على الشعب أن يكتفي بما قسمته عليه قيادته الرشيدة، ومن يريد شيئا آخر فليشرب من ماء البحر أو يغلق فمه حتى لا يدخله هواء ولا ماء، وإذا كان يملك وسيلة أخرى فليجربها وسيأتيه الرد اللائق والرادع. الحكومة يجب أن تظهر قوية على شعبها حتى لا تثير أطماع أية جهة خارجية. كما أن الكثير من أبناء الشعب الكريم لا يحب أن يرى حكومته ضعيفة أمام الشعب، حتى أيام الانتخابات، فهو يأكل منها ضربا مبرحا وينهض مسرعا ليتغنى بفضائلها ويجري لاهثا لنيل رضاها.

وأحسن نصيحة يمكن أن يقدمها المرء لهؤلاء الأساتذة المضربين هي أن يتوقفوا حالا عن إضرابهم ويجروا أجسادهم النحيلة باتجاه بيوتهم وذويهم ويبحثوا لهم عن عمل آخر. فالحكومة منشغلة بأمور أهم وأعظم ولا وقت لها للنظر في مطالب فئات مسحوقة تعيش عالة على البلد وتحط من قيمته أمام العالم. أما النصيحة الأخرى فهي للحكومة التي نشد على يدها وندعوها للاستمرار في نهجها السوي وموقفها الحازم في التصدي للمناورات والمكائد التي يدبرها لها أبناؤها. وبشأن إضراب الأساتذة وحتى تخرسهم إلى الأبد (إن بقوا أحياء رغم إضرابهم) عليها أن تقرر إلغاء جميع الشهادات التي حصل عليها التلاميذ الذين تلقوا دروسا من هؤلاء الأساتذة على اعتبار أنهم أساتذة غير أكفاء ولا يستحقون اللقب ولأن توظيفهم كمتعاقدين كان في لحظة ضعف ولا وعي.

قصة مشابهة

أعلن وزير الخارجية الجزائري قبل أيام أن الاتفاق الجزائري الليبي حول المساجين سيطبق (تدريجيا) بعد أسابيع، ولم يقل هل هي أسابيع قليلة أم كثيرة، المهم أنه سيطبق وهذا في حد ذاته خبر مفرح لكثير من الجزائريين الذين بحوا من توجيه النداءات إلى من يهمه الأمر للتحرك من أجل الإفراج عن معتقلين في سجون الجماهيرية العظمى الخالية من السجون. الاتفاق مع الشقيقة العظمى جاء بعد أن مات من مات وانهار من انهار ويئس من يئس من المساجين الجزائريين الذين لا يعرف عن كثير منهم الأسباب التي اعتقلوا من أجلها. الحكومة تعلم طبعا لماذا يوجد أبناؤها في سجون شقيقة وصديقة وتعلم وحدها لماذا ترفض التحرك لتحريرهم أو نقلهم إلى السجون الجزائرية، لهذا فإن الاحتجاج ومطالبتها بالتحرك لا يختلف كثيرا عن احتجاج ومطالبة الأساتذة المتعاقدين. فالحكومة تعرف ما لا يعرفه الشعب وهي ليست مطالبة بالإفصاح عن كل ما تعلمه وقديما قيل (ليس كل ما يُعلم يقال).

وليس لأحد الحق أن يسأل متى يبدأ تطبيق الاتفاق ولا متى تتحرك الحكومة لتطبيق أو توقيع اتفاقات أخرى مع دول الجيران الأخرى ولا لماذا لم تتحرك أو بالأحرى لماذا بقيت لسنوات ترفض عروض الأمريكيين لتسلم معتقليها في غوانتانامو. كرامة المواطن شعار رفعه فخامة الرئيس بوتفليقة عاليا خلال أول حملة انتخابية له، لهذا لا أحد يحق له الآن أن يقول إن كرامة المواطن الجزائري تداس في بلده أو في الخارج، فالجزائر أصبحت بقرار رئاسي بلد العزة والكرامة ومن يقول غير هذا لن يكون إلا مغرضا تحركه أطراف خارجية، ومن لم يصدق نقول له إذا لم يكن المواطن عزيزا وكريما بفضل جهود وسياسة فخامته الرشيدة فلماذا منح الشعب ثقته لرئيسه ورضي به رئيسا لفترة ثانية وهو ينتظر بحرقة الساعة التي يعلن فيها فخامته قراره بتعديل الدستور بما يسمح له بالاستمرار في الحكم حتى يحفظ للشعب كرامته وعزته أبد الدهر؟ لا أحد يعلم متى يعلن فخامته البشارة ويطلق الأنفاس الحبيسة التي تنتظر بفارغ الصبر يوم المنى. في انتظار ذلك لا بأس أن نتابع الأخبار الموثوقة التي تنقلها صحافتنا عن مصادرها العليمة والمقربة، التي تؤكد لنا منذ أزيد من عام أن تعديل الدستور آت لا ريب فيه وأن الموعد يكاد يكون قريباً. عشية كل مناسبة يطلع علينا مصدر مطلع كاشفا أن خطاب فخامته سيتضمن الدعوة إلى تعديل الدستور وما أكثر المناسبات في جزائرنا الحبيبة!


المقال نشر يوم 21-08-2008

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى